في وصف حالتنا الفلسطينية، من ناحية شكلية سنجد تسميات عديدة، هي: فصائل مقاومة، كتائب مسلحة، قوة تنفيذية، مجاهدون، أمن داخلي، وحدة الإرباك الليلي، صواريخ القسام، حماة الثغور، قوات القبة الحديدية، وحدة البالونات الحارقة، غرفة عمليات مشتركة، مسيرات العودة (السلك)، مقاومة شعبية.
وعلى صعيد الخطابة والإعلام، كل شيء متوفر: مئات المحللين السياسيين، والخبراء الإستراتيجيين، والناطقين الإعلاميين.. وأيضاً، جميع المصطلحات العسكرية، والعبارات الجاهزة، والشعارات الكبيرة حاضرة في كل مقابلة، وفي كل مقالة: تهدئة، وقف إطلاق نار، تصعيد ناري، رد مزلزل، انتقام، ثأر، تغيير قواعد الاشتباك، خلف خطوط العدو، عمليات نوعية، تبادل القصف الصاروخي، قصف تل أبيب، ضرب بالكورنيت، تفاهمات وتخريب التفاهمات، غلاف المستوطنات، نصر إلهي، توازن الرعب.
للمراقب من بعيد، ومن يستمع لكل هذه التسميات والمصطلحات سيتبادر إلى ذهنه أن الجماهير متحدة، ومعنوياتها عالية، والمقاومة مشتعلة، وها هي تسجل الانتصار تلو الانتصار، فيما العدو مرتبك، ويتراجع.. وسيرسم بناء على ذلك صورة مثالية عن المقاومة، ووحدة الصف، هي أبعد ما تكون عن الواقع.
في واقع الأمر، الانقسام ما زال مستمرا، ويفسد أي فرصة لتحقيق أي منجز، فصائلنا مترهلة، ومتكلسة، وأولوياتها حزبية بالدرجة الأولى، أداؤنا السياسي ضعيف، وخطابنا الإعلامي عبارة عن مناكفات، وتهديدات جوفاء، وعبارات إنشائية منمقة.
مئات آلاف الشبان يعيشون حالة غير مسبوقة من التيه، وانعدام البوصلة، فاقدين للأمل، ليس لديهم أي نموذج ملهم، أو تنظيم يرشدهم ويحتويهم، أو مؤسسة تفجر طاقاتهم.. عمّال عاطلون عن العمل، وخريجون دون أي فرصة للتوظيف، وكفاءات مهملة.. لا يفكرون إلا بالهجرة، والهروب من هذا الجحيم، حتى لو ركبوا البحر، وهم على علم بأن مئات ممن سبقوهم لقوا حتفهم غرقا.. عدا الآلاف ممن فقدوا أطرافهم، ومن أصيبوا بإعاقات دائمة..
مئات الآلاف من الأسر تحت خط الفقر، ومنها من هُدم منزلها، ومن فَقدت معيلها، ومن تعيش على الإعانات، ومن ترسل أطفالها لنبش الحاويات، أو لبيع المناديل على مفترقات الطرق.. والجميع يعيشون حالة ذعر كلما سمعوا دوي القذائف، أو أزيز الطائرات.
وفي الضفة المحتلة، معاناة دائمة مع الحواجز، والجدار، وحملات المداهمة الليلية، والاجتياحات، والاعتقالات، والقتل، وهدم البيوت، واقتلاع الأشجار، ومضايقات المستوطنين، وإرهابهم وتخريبهم، واعتداءاتهم على المواطنين، بحماية الجيش.
وإسرائيل (المرتبكة) تواصل مصادرة الأراضي، وضمها، وبناء المستوطنات، وتوسيعها، وتهجير السكان قسريا، وتهويد القدس، بعد أن نجحت بأخذ اعتراف أميركي بأنها عاصمة إسرائيل، واعتراف بضم الجولان، وها هي تستعد لضم الأغوار، والمناطق المحيطة بالمستوطنات..
القيادة الفلسطينية تواصل ترديد نفس المصطلحات ونفس الخطاب: إدانة جرائم إسرائيل، ووصفها بأنها تهدد السلام، وتتعارض مع القوانين الدولية، وتهديدها بأنها ستنسحب من أوسلو، وستعيد تعريف دور السلطة الوظيفي، وستوقف التنسيق الأمني، وستقاطع البضائع الإسرائيلية، وستنسحب من كل الاتفاقيات الموقعة، وستسحب اعترافها بإسرائيل.
كل هذا جيد، ومطلوب، ولكنه أبدا لا يكفي، ولا يؤسس لمقاومة حقيقية، ولا يوقف عدوانا، ولا يردع إسرائيل عن فعل أي شيء، حتى أنه صار مادة للسخرية.. ومع أن السلطة نفذت بعض هذه التهديدات، إلا أن نجاحها يحتاج عوامل كثيرة غير متوفرة الآن.
خطاب المقاومة، والتحليلات السياسية والمصطلحات العسكرية (التي أشرنا إليها) ربما كانت تصلح في زمن الفدائيين، ومرحلة الكفاح المسلح في السبعينيات والثمانينيات.. أما اليوم، فالواقع مختلف.. فصائل المقاومة لا تفكر بتحرير فلسطين، وليس همها الدفاع عن شعبها (ولا بوسعها ذلك)، ولا تسعى لأي حل سياسي، هي تصعد جولات مواجهة عسكرية (محدودة وخاسرة) بهدف الانتقام لاستشهاد أحد قياداتها، وبعد ذلك وقبله، همها الحقيقي الحفاظ على وجودها، وإدامة الوضع الحالي للأبد..
التهديد بالصواريخ أكبر تضليل إعلامي، المتضرر الأول منه هم أهل غزة، والمستفيد الوحيد هو إسرائيل؛ حيث توظفه في دعايتها الإعلامية (بأنها ضحية الصواريخ)، وأنها تحمي شعبها من القصف العشوائي، وبالتالي تبرر للعالم جرائمها في غزة، بقصف البيوت بالصواريخ (الحقيقية) التي تجلب الموت والدمار..
التفاهمات، والتهدئة، والهدنة، ووقف إطلاق النار.. مصطلحات مضللة، تستخدمها إسرائيل بعد أن تحقق أهدافها، وتنهي مهماتها التدميرية، ثم تأتي «حماس» لتقنعنا بأنها حققت نصرا، وفرضت قواعد جديدة للاشتباك..
الاعتقاد بأن قضيتنا هي القضية الأولى والأهم في العالم وهمٌ مريح.. قضيتنا عادلة دون شك، وهي مهمة أيضا في الخارطة السياسية والنظام الدولي.. لكنها ليست الأهم، فالواقع السياسي يتغير باستمرار، فتحل قضايا محل أخرى، وتتبدل أولويات العالم، وأحيانا تكون قضيتنا في ذيل القائمة.. سواء بالنسبة للمجتمع الدولي، أو حتى للدول والشعوب العربية والإسلامية.. ومن الضروري أن نعي هذه الحقيقة..
والاعتقاد بأننا شعب جبار، مجرد وهم نرجسي.. في الواقع حين كان ياسر عرفات يردد عبارته الأثيرة «شعب الجبارين»، كان يهدف إلى رفع المعنويات، والحث على الصمود، وتنمية المشاعر الوطنية.. المشكلة أننا صرنا نعتقد بأننا شعب استثنائي، وأننا أكثر شعب يفهم في السياسة، بحكم التجربة الطويلة والمريرة، وهذا غير صحيح..
البعض ما زال يعتقد أنه في زمن عبد الناصر، وتيتو، ونهرو، وجيفارا، والاتحاد السوفيتي، ويريد إشعال الكفاح المسلح، وشن حرب التحرير الشعبية.
والبعض يحلل ويتوعد وينتقد.. وهو يعتقد بأننا قوة عظمى، ولدينا إمكانيات الجيش الأحمر، أو غابات فيتنام، وجبال بوليفيا.
والبعض يصيغ خطابه وكأنه في زمن الحرب الباردة، والتوازنات الدولية، والعمق العربي، واللاءات الثلاث..
البعض يظن أن الشعوب الإسلامية معنا، وهي متحدة، ومتأهبة للجهاد، وتتوق لتحرير فلسطين، لكنَّ ما يؤخرها أن الفلسطينيين جعلوا قضيتهم «وطنية»، وبالتالي حرموهم من فرصة الجهاد، ومنعوا جيوشهم من الزحف المقدس.. أو أنّ تلك الجموع الغفيرة جاهزة، ومجهزة، لكنها تنتظر «الخليفة» ليعلن النفير العام.
البعض يعتقد أن إسرائيل بمؤسساتها وجيشها عبارة عن «دولة مسخ» وكيان طارئ.
في الحقيقة، واقعنا مزرٍ، بكل معنى الكلمة..
ولكن، ومع كل ما سبق، إذا كنا ضعفاء بإمكانياتنا؛ فقوتنا في إرادتنا، وعدالة قضيتنا.. وإذا كنا مشتتين، ومنقسمين؛ فتجمعنا وحدتنا الوطنية، ومصيرنا المشترك.. نستطيع قلب الطاولة، ورفض أي حل لا يلبي طموحنا الوطني، ونستطيع انتزاع حقوقنا السياسية... فقط، إذا امتلكنا الإستراتيجية الصحيحة، وصوبنا مسارنا الكفاحي، واستعدنا وحدتنا.. واستنهضنا عناصر قوتنا.. والأهم أن نسقط كل تلك الأوهام.. ولدينا الفرصة لذلك.
قد يهمك أيضا :
عـن الـذكـاء الـعـاطـفـي
لماذا؟!