بقلم : توفيق أبو شومر
فجأة، تفجرتْ براكين العشق للأوطان عند كثيرين من معارفي في بلدان العالم، سمعتُ عزَف عواطفهم الشجية على أوتار الحنين، ونغمات سيمفونيات الذكريات، وقصائد الحُب الشفيف للأوطان، ما حرَّك في داخلي بعض محفوظاتي من أدب الحنين إلى الأوطان، فقد حفظنا في الصغر قول الشاعر العباسي، ابن الرومي:
ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعه... وألا أرى غيري له الدهرَ مالِكا
وحفظنا بيتا مشهورا، كان هذا البيتُ الشعريُ أكثرَ شهرةً من قائله، لم أكن أعرف حين حفظْتُهُ أنَّ قائله شاعرٌ عاش في القرن السابع الهجري، هو قتادة إدريس:
بلادي، وإن جارتُ عليَّ عزيزةٌ..... وأهلي، وإنْ ضنُّوا عليَّ كِرامُ
تذكرتُ ما أحفظه من شعر الحنين إلى الأوطان، تذكرت الشاعر َالعربي، أبا فراس الحمْداني، حين اشتاق إلى مسقط رأسه، مدينة حلب السورية، حيث نشأ وترعرع، قال بيتين من الشعر يصف حنينَه إلى مدينة حلب، حيث شبَّه نفسه في بلاد الغُربة بحصاةٍ تُرمى في الفضاء البعيد، لكنها تعود إلى موئلها، إلى حلب:
أسيرُ عنها، وقلبي في المُقامِ بها.... كأنَّ مُهري لثُقلِ السيرِ مُحْتَبسُ
مِثلُ الحصاةِ التي يُرمى بها أبدا.... إلى السماءِ، تَرقى، ثُمَّ تنعكسُ
تذكرتُ كذلك الشاعر المبدع، نزار قباني، حين كتب يصف حلب أيضا:
"كانتْ حلبُ دائما على خريطة عواطفي، تختبئُ في شراييني، كما يختبئُ الكُحلُ في العينِ السوداء، وكما يختبئ السُّكَّرُ في العنب".
نزار نفسُه وصفَ حنينَه إلى دارِهِ في دمشق، قال: "هل تعرفون معنى أن يسكنَ الإنسانُ في قارورةِ عطرٍ؟ بيتُنا كان تلك القارورة، أنا لا أحاولُ رشوتكَم بتشبيهٍ بليغٍ، ولكن، ثِقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلمُ القارورة، بل أظْلِم بيتنا، كلُّ حروفي مُقتلعةٌ حجرا، حجرا، من بساتينها، وفسيفساء جوامعها، كل ألفٍ رسمتُها هي مئذنةٌ دمشقية، وكلُّ حاءٍ كتبْتُها هي حمامةٌ على قبة المسجد الأموي، آلاف الأزهار الدمشقية تتسلقُ أصابعي كلما أردتُ أن أكتب"
تذكرتُ بيتا مشهورا لأمير الشعراء، أحمد شوقي:
وطني، لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنه..... نازعتْني إليه في الخُلْدِ نفسي.
كتب شوقي أيضا حينَ نفاه الإنجليز العام 1915 بسبب أشعاره الثورية، إلى إسبانيا، ثلاثة أبيات رائعة في الحنين لبلد الكنانة، مصر، قال:
يا ساكني مِصرَ إنَّا عَلَى ..... عهدِ الوفاءِ وإنْ غِبْنَا مُقيمينا
هَلَّلا بعثتمْ لنا مِن ماءِ نهركمُ..... شيئا، نَبُلُّ به أحشاءَ صادينا
كُلُّ المناهلِ بَعد النِّيلِ آسنةٌ..... ما أبعدَ النِّيلَ، إلا عن أمانينا!
فجَّرت أبياتُ شوقي، يُنبُوع مُجايِلهِ، شاعرِ النيل، حافظ إبراهيم، ردَّ على شوقي بأبياتٍ على موسيقى الشعر نفسها، تفيض بالرقة والحنين، قال:
عجبتُ للنِّيلِ يدري أنَّ بُلبُلَه صَادٍ...... فيسقي رُبا مصرَ، ويسقينا!
واللهِ، ما طابَ للأصحابِ مورِدُهُ...... ولا ارتَضَوْا بعدَكم مِن عَيشِهِ لِينا
لم تنأَ عنه، وإنْ فارقتَ شاطِئَهُ...... وقد نأيْنَا، وإن كُنَّا مُقيمينا
أخيرا، هل فيضُ الحنين إلى الأوطان إحساسٌ طارئٌ، يشتغل في الأزمات، مثل أزمة الـ"كورونا" الحالية؟ أم إنه جِينةٌ وراثيةٌ، يرثُها أبناءُ الوطن، عن أوطانهم، جينة، تظلُّ ثاويةً في الأعماق كوشمٍ أزلي لا يزول؟!
قد يهمك أيضا :
قصة عُشبة الجلجامش الأميركي
كلاب، لِشَمّ اللُعاب !