بقلم : حسن خضر
لا تملك إيران فرصة حقيقية للفوز في مجابهة عسكرية مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن في عبارة شائعة للفرنسي كليمنصو، عن حقيقة أن الحرب أخطر من أن تترك للجنرالات، ما يُمكننا من التقدّم خطوة إضافية. فلا معنى للفوز في الميدان دون وجود سيناريو مُسبق لما يجب أن يكون عليه الحال في اليوم التالي.
فقد تمكّن الأميركيون، مثلاً، في آخر حربين ناجحتين بالمعايير العسكرية الصرفة، في أفغانستان والعراق، من تدمير القوّة العسكرية للعدو، بكفاءة عالية، واحتلال بلاده. ولكن الفوز في الميدان مرئياً على خلفية ما نجم عنه، في "اليوم التالي" من تداعيات إقليمية ودولية، وفي البلدين، وفي صفوف المنتصرين أنفسهم، يبدو نصراً أسوأ من هزيمة. وهذا ليس جديداً، تماماً، فجذر التعبير الإنكليزي A Pyrrhic victory يعود إلى حروب مشابهة وقعت قبل الميلاد.
وبهذا المعنى، وفيه، يبدو النصر في الميدان مجرّد نقلة افتتاحية في لعبة معقّدة، على رقعة شطرنج، غامضة، ومحفوفة بمخاطر بعيدة المدى. ولنضع جانباً احتمالات من نوع الضربات الصاروخية الإيرانية، وضربات الميليشيات الحليفة، التي قد تلحق أضراراً بالغة بالإسرائيليين والسعوديين والخليجيين والقواعد الأميركية في المنطقة، وتؤدي إلى تناسل أكثر من حرب في حرب واحدة، وتعددية جبهاتها.
فهذه قد تحدث، فعلاً، وقد يتمكن الأميركيون وحلفاؤهم من تحييدها، والحد منها بمزيج من الوسائل التقنية، والعمليات الخاصة، والتهديد برد ساحق. ولنتذكّر رهان صدّام حسين الخاسر في حرب الكويت حين اعتقد أن إطلاق صواريخ على إسرائيل سيشعل المنطقة.
ومع ذلك، يبقى أن الضربات والضربات المضادة، ورغم كلفتها العالية، أقل تأثيراً وإثارة لتداعيات متوسطة وبعيدة المدى من احتمال سقوط نظام الملالي، وانهيار الدولة الإيرانية نفسها. وهذا ما ينبغي حساب كلفته المُروّعة بمسطرة ما وقع في أفغانستان، والعراق، مضروباً بعشرة أضعاف، سواء تعلّق الأمر بمستوى العنف، الذي لن يُبقي حجراً على حجر في المنطقة، أو بموجة الهجرة والمهاجرين، التي ستطيح بأنظمة الديمقراطيات الليبرالية في الغرب.
وعلى خلفية كهذه يمكن فهم التباين في المواقف إزاء الاتفاق النووي، مع إيران، بين الأوروبيين والأميركيين، والتباين بين الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة نفسها. وخلاصة الاتفاق النووي، بعيداً عن التفاصيل التقنية، هي الرهان على سياسة الاحتواء، ومحاولة تعديل سلوك النظام بالمفاوضات من جانب البعض، ويأس البعض الآخر من رهان كهذا دون العثور، بالضرورة، على حل راديكالي بديل.
ومن المنطقي التفكير في حقيقة أن حسابات وضغوط حلفاء للولايات المتحدة، في الشرق الأوسط، وعلى رأسهم إسرائيل، تُسهم في تمكين وتعزيز يأس الجمهوريين من خيار المفاوضات، ونزعتهم العدوانية، ولكنها لا تمثل، حتى الآن، مبرراً كافياً للحرب.
وما لم تظهر عوامل جديدة من شأنها قلب معادلات أصبحت تقليدية، فمن الأسلم القول إن سيناريو "اليوم التالي"، وتداعياته الكابوسية، لم يفقد قدرته الردعية بعد على الرغم من تجليات تصعيد غير مسبوق في الأسابيع القليلة الماضية، وصعوبة التنبؤ بردود أفعال ترامب، الذي "قبض" على الأرجح، من جهة ما، أو أكثر، أو تعرّض لضغوط من جهة ما أو أكثر (وربما تضافَر الأمران) للقيام بعمل ما، أصغر من حرب، وأكبر من تغريدة على تويتر.
أخيراً، ثمة ما يشبه تموّجات جوفية قوية وعميقة صعدت إلى السطح، في سياق التصعيد الأخير بين الأميركيين والإيرانيين، وتجلّت في انزياح غير مسبوق. فلم يكن من الصعب، وبقدر ما أرى، اكتشاف أن سياسة التوسّع الإيراني، في العالم العربي، على مدار عقود أصبحت طويلة، وراء قناع "المقاومة والممانعة" ألحقت ضرراً بالغاً بفكرة "المقاومة" نفسها، وأسهمت في فوضى دلالية غير مسبوقة في الموقف من إسرائيل، والولايات المتحدة، ومن قوى وجماعات حليفة للإيرانيين.
لا تحدث انزياحات بهذا الحجم نتيجة عامل واحد، بل تنجم عن تراكم عوامل تأتي من مصادر مختلفة. يمكن التفكير في الحرب الأهلية السورية، التي انخرط فيها الإيرانيون بصورة مباشرة إلى جانب نظام آل الأسد، وغير مباشرة من خلال حزب الله، وميليشيات طائفية عراقية وأفغانية، كلحظة تحوّل حاسمة في مواقف الكثيرين في العالم العربي من إيران، وارتيابهم في شعار "المقاومة والممانعة".
ويمكن، بطبيعة الحال، إضافة عوامل كثيرة إلى "اللحظة السورية" منها كارثة "حماس" في غزة، وسلوك حزب الله في لبنان، والميليشيات الطائفية العراقية في سدة الحكم وخارجها. فكل هؤلاء حلفاء لإيران، ولكل هؤلاء خطاب يسوّغ ويفسّر شرعية، ومبرر، وجوده بالعداء لإسرائيل والأميركيين وحلفائهم العرب. ومع ذلك، وإذا احتكمنا إلى ما تجلى من ردود فعل عفوية، صدرت عن مواطنين عاديين، في وعبر منصّات التواصل الاجتماعي، ومنابر إعلامية مختلفة، في الأسابيع القليلة الماضية، يمكن القول بقليل من المجازفة إن التعاطف مع إيران قليل، وشعار "المقاومة والممانعة" يثير الآن من الارتياب أكثر مما يثير من التعاطف.
وهذه ظاهرة جديدة لا يتسع المجال للخوض فيها، ولكن يكفي القول إنها من النتائج السلبية لسياسة إيران التوسّعية في العالم العربي. هذا لا يعني أن الناس أصبحوا أكثر تعاطفاً مع أعداء إيران الإقليميين والدوليين، بل يدل في جانب منه على قدر هائل من غموض وفوضى الدلالات في زمن مأزوم فُقدت فيه البوصلة، وما من ضوء يلوح في آخر النفق.