يستدعي الحدث السوداني وقفة خاصة. لذا، نؤجّل، مؤقتاً، تحليل «الاستثناء السعودي»، دون تناسي أن وقفة اليوم وثيقة الصلة بالموضوع، وكذلك معالجات سبقت، واستمرت، منذ ربيع هذا العام. فرض الحدث السوداني نفسه، كما نعلم، بعد الإعلان، بصفة رسمية، عن الموافقة على «تطبيع» العلاقات من جانب الطرفين السوداني والإسرائيلي، ومباركة العرّاب الأميركي.
بداية، أعتقد أن مفردة «تطبيع» الشائعة، هذه الأيام، تنطوي على دلالات مُضللة. والأقرب إلى الحقيقة، والواقع، أن نتكلّم عن «السلام الإبراهيمي»، بوصفه خارطة طريق سياسية، وأيديولوجية، وتنظيمية ل «صفقة القرن»، وأن نشخص ونُعرّف به ما تحقق حتى الآن بين إسرائيل من ناحية، الإمارات، والبحرين، والسودان، من ناحية ثانية. وما يصدق في وقت لاحق، أيضاً، على قائمة ستضم كل دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى أكثر من دولة في شمال أفريقيا، على الأرجح.
وبناء عليه، نكون قد وضعنا كل «ما تحقق» حتى الآن، وما ينتظر التحقيق، في إطار موضوعي يصف حلفاً، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً، في طور التشكيل، على غرار حلف وارسو، أو الناتو، مع تنويعات تنجم عن اختلاف الزمان والمكان وهويات ومصالح وتراتبية اللاعبين. وبناء عليه، أيضاً، نكون قد تقدّمنا خطوة إضافية في تعريف الحلف المذكور كنظام للأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، في مواجهة إيران، وتركيا، وكبديل تنظيمي للجامعة العربية.
يبدو هذا السيناريو كفنتازيا سوداوية، تماماً، من جانب كاتب هذه السطور على الأقل. وإذا راود ما يشبهه بعض أطراف الحلف، وهذا مرجّح، فينبغي ألا يغيب عن الذهن أن الكلام عن أمر كهذا أسهل بكثير من تحقيقه، وأن هذه فنتازيا جنونية إلى حد بعيد، وعوامل موتها في صميم بنيتها.
ومع كل هذه التحفظات في الذهن، لا يجب، بالمطلق، الاستخفاف بالطموحات الفاوستية للعربان والإسرائيليين، فالعالم العربي جثةّ تحللت، تعصف به، وبالإقليم والعالم، رياح طور متأخر لليبرالية جديدة توحّشت، وعولمة تثير من الذعر أكثر مما تبعث على التفاؤل بالمستقبل، وثورة يمينية وشعوبيات تسعى لتعويض كل ما أصاب هويات جريحة من مهانة في زمن صعود اليسار، وما بدا لوهلة بعد نهاية الحرب الباردة انتصاراً نهائياً للديمقراطيات الغربية على الشموليات والاشتراكيات السوفياتية وغيرها.
قلنا إننا إزاء حلف في طور التشكيل. وفي هذا التشخيص ما يمكّننا من استنباط دلالات سياسية وتنظيمية، والتفكير في سيناريوهات مختلفة. ويبقى أن للحلف دلالة أيديولوجية، أيضاً. فالمكان الوحيد في الكون الذي لا ينبغي أن تنفصل فيه السياسة عن الدين، ولا ينبغي أن تنجح فيه سياسة دون الدين، هو العالم العربي، والشرق الأوسط. هذه نظرة يتبناها صنّاع القرار في الغرب، لأسباب يطول شرحها، وتروّج لها النخب الحاكمة والسائدة في هذا الجزء من العالم.
والمهم أن صنّاع «السلام الإبراهيمي»، وأعضاء الحلف قيد التشكيل، لم يعثروا في إبراهيم هذا على جد مشترك، وعلى ما يُشبع الحاجة للحيلولة دون فصل الدين عن السياسة، وحسب، ولكنهم وضعوا، أيضاً، عناصر ومفردات جديدة لحفظ وترميم العلاقة الرحمية بين الدين والسياسة، بعد إصلاح الدين (إصلاح الخطاب الديني بعد افتضاح هوية الدواعش الوهابية، وفشل الرهان الأميركي على الإخوان) من ناحية، وإصلاح السياسة (تحريرها من النزعة القومية العروبية، وملاحقة شبح الربيع العربي، وسحق ما تبقى من الحركة الوطنية الفلسطينية، وتعقيم السياسة حتى من أفكار كالمواطنة، والعدل، والمساواة) من ناحية ثانية. نبيذ جديد في زجاجات قديمة.
ويبقى أن الحدث السوداني يتجلى الآن كوسيلة إيضاح لأشياء كثيرة. فالتحاقه بالحلف تم بضغط من جنرالات الجنجاويد، وهؤلاء كانوا موضع ثقة البشير وشركائه الإسلاميين، وشاركوا في نهب البلاد، وإفقارها، وارتكاب جرائم حرب. ويمكنهم الإفلات من ملاحقة الجنائية الدولية إذا نالوا رضا الأميركيين والإسرائيليين.
وهؤلاء، أيضاً، هم الذين غضوا النظر عن الرشوة المالية التي تلقاها رئيسهم السابق، البشير، من السعودية والإمارات، مقابل الزج بالسودانيين الفقراء في حرب اليمن، التي لا ناقة للسودان فيها ولا جمل. وهم، أيضاً وأيضاً، ما زالوا يغضّون الطرف عن بقائهم هناك.
وأخيراً، هؤلاء هم الذين أسفرت تدخلات إقليمية ودولية، تحت الطاولة وفوقها، عن صعودهم إلى هرم السلطة بعدما اتضح استحالة احتواء الثورة الشعبية دون التضحية برأس النظام. وهذا أحد الدروس التي استخلصتها قوى الثورة المضادة منذ الأيام الأولى للربيع العربي: التضحية برأس النظام كوسيلة لاحتواء الثورة الشعبية.
والواقع أن الالتحاق بالسلام الإبراهيمي سيمكّن هؤلاء من البقاء في هرم السلطة، وسيصعد من بينهم زعيم لهم، يستفرد بالسلطة، ويطيح بالشركاء المدنيين حتى يطيح به انقلاب عسكري، أو ثورة شعبية. هذه سيرة ومسيرة الحكم في السودان منذ الاستقلال عام 1956.
ويبقى أن بعض المدنيين، الذين شعروا بالإهانة نتيجة الضغط والابتزاز الأميركيين، ليسوا حمقى تماماً، ولا يمكنهم، حتى لأسباب وطنية، تجاهل ما قد يحصل عليه البلد من مكاسب اقتصادية وسياسية بعد الالتحاق بالحلف.
على أي حال، أيام المدنيين في سدة الحكم قصيرة. وآمال السودان في الخروج من المأزق الاقتصادي لا تبدو واقعية. وعندما يخلع جنرالات الجنجاويد البزات العسكرية ليصبحوا «مدنيين» وحكّاماً «منتخبين»، لا ينبغي التظاهر بالدهشة إذا فكّرنا في أشياء من نوع: نبيذ جديد في زجاجات قديمة.
ويبقى، أن التاريخ لا يشكو ندرة اللؤم، أو حس المفارقة، فإسرائيل التي أرادت تكحيلها «عمتها» فعلاً بهبة الطحين التي تساوي خمسة ملايين دولار. وفي يوم ما، عندما يُؤرَّخ «لسلام إبراهيم» لن نجد بداية خيط أفضل من «الحدث السوداني».