تأملات في عالم متغيّر 8
آخر تحديث GMT 18:50:45
 فلسطين اليوم -

تأملات في عالم متغيّر (8)

 فلسطين اليوم -

تأملات في عالم متغيّر 8

حسن خضر
بقلم : حسن خضر

توقفنا، في مقالة سبقت، عند «البربرية» الآسيوية، وكيف أصبح مَنْ برّر مجيئه بحماية الحضارة الغربية منها حامياً لها. وفي هذا ما يأخذنا، اليوم، إلى موضوع رأس المال الرمزي والأخلاقي لمشروع دولة لليهود، وإلى استنتاج مزدوج مفاده أن افتضاح أمر الحامي من ناحية، واحتمال أن يشكّل مصدر تهديد للحضارة التي «تطوّع» لحمايتها من ناحية ثانية، سيؤدي في نهاية الأمر إلى نضوب الرصيد الأخلاقي والرمزي للمشروع ودولته.

ويصعب، في الواقع، التقدّم في بلورة فرضية كهذه دون العودة قليلاً إلى الوراء. فقد فشل العرب والفلسطينيون، بوتائر مختلفة، في إدراك أن رأس المال الرمزي والأخلاقي لمشروع دولة لليهود كان وافراً، ومتوفراً، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والهولوكوست، على نحو خاص، وقبل هذا التاريخ بعقود كثيرة، أيضاً، وأن هذه الذخيرة كانت من العوامل الحاسمة في تمكين المشروع الصهيوني من النجاح، وتزويد دولته، بعد قيامها، بأسباب البقاء. بمعنى أكثر مباشرة: يحتاج الأمر إلى ما هو أكثر، وأبعد، من مؤامرة إمبريالية، أو غيرها، لإنشاء دولة لليهود في فلسطين.

وربما نجم الفشل عن ميل الإنسان، في الصراعات القومية الكبرى، إلى تجريد الأعداء من كل رصيد رمزي وأخلاقي مُحتمل، وما أدراك إذا كان هؤلاء، منظوراً إليهم بأعين ضحاياهم، جزءاً من ظاهرة الكولونيالية، الغربية، أيضاً، التي قطعت للعرب وعوداً كاذبة في الحرب العالمية الأولى، واقتسمت بعدها بلادهم. ومع ذلك، ثمة ما يُبرر الاعتراف بوجود أرصدة رمزية وأخلاقية (بصرف النظر عن مضامينها) لمشروع دولة لليهود، واستحالة نقدها ونقضها برواية بديلة دون رصيد رمزي وأخلاقي مضاد.

وبهذا المعنى، في كل نقد محتمل «لعبء الرجل الأبيض»، مثلاً، ما لا يفضح التهافت الرمزي والأخلاقي لرواية الكولونيالية عن نفسها وحسب، بل وما يشكل مصدراً جديداً لإغناء رواية ضحاياها عنها وعن أنفسهم، أيضاً. وهذا درس لنا، ففي كل محاولة «للكلام» عن إسرائيل، بلغة السياسة والعلوم الإنسانية، ما يجب أن ينطوي، مباشرة أو مداورة، وبالضرورة، على محاولة لإنشاء رواية مضادة، وللاستثمار في، والرهان على، رأس مال رمزي وأخلاقي بديل. لا حياد، ولا حياء.

على أي حال، لا يسمح ما تبقى من مساحة بالاستطراد. لذا، تكفي الإشارة إلى ملاحظة إدوارد سعيد في «مسألة فلسطين» بشأن لغة ودلالات ودوافع وعد بلفور، مثلاً. فما قيمة تلك الكتلة البشرية الغامضة من العرب، في آسيا الغربية، في ذهن إمبريالي بريطاني، في مطلع القرن الماضي، إذا ما قورنت بالحضور التاريخي والديني لليهود والمسألة اليهودية، وحتى بفلسطين نفسها، في المخيال الغربي. ومن «محاسن الصدف» أن هذا ينسجم، أيضاً، مع اقتسام أملاك السلطان العثماني «رجل أوروبا المريض»، وحماية قناة السويس، ودرّة التاج البريطاني في الهند.

المهم، ولأسباب وثيقة الصلة بموضوعنا، أن ما تكلمنا عنه من فشل زوّد اليمين القومي والديني، العربي والفلسطيني، بعدة شغل كاملة من المفردات، والتصوّرات، والخردوات الأيديولوجية المحلية والمستوردة، التي دارت، وما زالت تدور، في فلك تلفيقات مُبتذلة من نوع «بروتوكولات حكماء صهيون» (التي جاءت إلى العالم العربي مع ضباط مكتب المستعمرات البريطاني في الحرب العالمية الأولى)، وتُضفي، بالتالي، صفات شبه أسطورية على «مؤامرة» الصهيونية، و»دهاء» اليهود.

وقد بلغ الفشل، وما زالت أصداؤه مسموعة حتى الآن، في منابر الإسلام السياسي، وغيره من القوى المحافظة والرجعية، قدراً مُريعاً من الشطط، بقدر ما تجلى في اتهامات ومرافعات تستهدف اليسار الماركسي والقومي، في فلسطين والعالم العربي، بوصفه لا من مُخرجات مؤامرة للاستيلاء على فلسطين وحسب، ولكن كأدوات في مؤامرة غربية ـ صليبية ـ صهيونية، يهودية ـ مسيحية ـ علمانية ـ شيوعية ـ قومية ـ ماسونية (أضف ما شئت من سمك ولبن وتمر هندي) للنيل من «الإسلام»، أيضاً.

على أي حال، لا ضرورة حتى للتدليل على ما في خلطة كهذه من خيال مجنّح. المهم أن الفشل في صيغتيه: السياسية عن المؤامرة الإمبريالية، والهذيانية عن مؤامرة النيل من «الإسلام»، لم يكن عاجزاً عن نقض ونقد رأس المال الأخلاقي والسياسي لمشروع الدولة اليهودية وحسب، بل وزوّد المراهنين، في إسرائيل والغرب، على القيمة الاستراتيجية لرأس المال هذا، بمرافعات إضافية لإقناع المواطنين الغربيين في زمن الحرب الباردة بأنهم مع «الأخيار» ضد «الأشرار».

والمفارقة، في هذا الشأن، أنه أصبح في وسعنا، الآن، الكلام عن تآكل رأس المال الرمزي والأخلاقي لمشروع الدولة اليهودية، مع ضرورة التشديد على حقيقة أن هذا التآكل لم ينجم، في الجانب الأكبر منه، عن نجاح العرب والفلسطينيين (فالقليل الذي حققه هؤلاء، في عقود سبقت، دمّرته حماس) بل نجم عن مقامرة اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل بما تبقى من رأس المال الرمزي والأخلاقي لمشروع الدولة بطريقة تُنذر، إذا ما ستمر الحال على هذا المنوال، بنضوبه في وقت قريب.

وبقدر ما أرى، فمن الحماقة التفكير في احتمال أنه يفعل هذا دون إدراك مُسبق لما تنطوي عليه المقامرة من مخاطر وعواقب وخيمة في حال الفشل. والأرجح أنه يُقدم على مجازفة كهذه محاكاة لتجربة سبقت، ونتيجة حسابات مفادها أن موازين القوى قد تغيّرت، وتغيّرت معها قواعد اللعبة، وأن ثمة لحظة مواتية ينبغي الرهان عليها واستثمارها. وهذا ما يستحق التأمل في معالجة لاحقة.

قد يهمك أيضا :  

تأملات في عالم مُتغيّر (5)

تأملات في عالم مُتغيّر (6)

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تأملات في عالم متغيّر 8 تأملات في عالم متغيّر 8



GMT 22:40 2024 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب... وما ورائيات الفوز الكبير

GMT 21:38 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

سيمافور المحطة!

GMT 21:36 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

يراها فاروق حسنى

GMT 21:34 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

«بكين» هل تنهي نزاع 40 عاماً؟ (2)

GMT 21:32 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

ماذا حل بالثمانيتين معاً؟

إطلالات هند صبري تلهم المرأة العصرية بأناقتها ورقيها

القاهرة ـ فلسطين اليوم
تعَد هند صبري واحدة من أبرز نجمات العالم العربي، التي طالما خطفت الأنظار ليس فقط بموهبتها السينمائية الاستثنائية؛ بل أيضاً بأسلوبها الفريد والمميز في عالم الموضة والأزياء. وفي يوم ميلادها، لا يمكننا إلا أن نحتفل بأناقتها وإطلالاتها التي طالما كانت مصدر إلهام للكثير من النساء؛ فهي تحرص على الظهور بإطلالات شرقية تعكس طابعها وتراثها، وفي نفس الوقت، تواكب صيحات الموضة بما يتناسب مع ذوقها الخاص ويعكس شخصيتها. إطلالة هند صبري في مهرجان الجونة 2024 نبدأ إطلالات هند صبري مع هذا الفستان الأنيق الذي اختارته لحضور مهرجان الجونة 2024، والذي تميّز بأناقة وأنوثة بفضل قَصته المستوحاة من حورية البحر، مع زخارف تزيّنه وتذكّرنا بقشور السمك. وهو من توقيع المصممة سهى مراد، وقد زاد سحراً مع الوشاح الطويل باللون الرمادي اللامع وبقماش الساتان، ال...المزيد

GMT 12:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 فلسطين اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 18:06 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يعزز صحة العين ويسهم في الحفاظ على البصر
 فلسطين اليوم - الفستق يعزز صحة العين ويسهم في الحفاظ على البصر

GMT 17:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفل بـ40 عامًا من الابتكار في مهرجان "نيسمو" الـ25
 فلسطين اليوم - "نيسان" تحتفل بـ40 عامًا من الابتكار في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 08:51 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

يتحدث هذا اليوم عن بداية جديدة في حياتك المهنية

GMT 21:38 2020 الأحد ,03 أيار / مايو

حاذر التدخل في شؤون الآخرين

GMT 06:51 2019 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الحمل" في كانون الأول 2019

GMT 07:28 2020 الخميس ,18 حزيران / يونيو

«الهلال الشيعي» و«القوس العثماني»

GMT 01:18 2017 الأحد ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

وفاة "أيقونة" رفع الأثقال بعد صراع مع المرض

GMT 22:54 2016 الجمعة ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أصحاب دور العرض يتجهون إلى رفع "عمود فقرى" من السينما

GMT 10:32 2020 الأربعاء ,20 أيار / مايو

فساتين خطوبة للممتلئات بوحي من النجمات

GMT 16:35 2020 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

أحدث تصاميم ديكور لحدائق المنزل

GMT 17:03 2019 الأربعاء ,13 شباط / فبراير

اعتقال موظف وعشيقته داخل مقر جماعة في شيشاوة

GMT 12:46 2019 الخميس ,24 كانون الثاني / يناير

العقوبات الأميركية تطال منح الطلاب الفلسطينيين في لبنان
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday