تأملات في عالم مُتغيّر 6
آخر تحديث GMT 12:11:16
 فلسطين اليوم -

تأملات في عالم مُتغيّر (6)

 فلسطين اليوم -

تأملات في عالم مُتغيّر 6

حسن خضر
بقلم : حسن خضر

ألمحنا في مقالة سبقت إلى إكراهات الجغرافيا السياسية بوصفها مكوّناً في مركزية المسألة الفلسطينية، وأن هذا المكوِّن، الذي لم يكن سائداً بدرجة كافية، يضفي عليها دلالة تتجاوز البلاغة والدسم القوميين. فحتى لو لم تكن ثمة قوميّة عربية جامعة، ستجابه قوّةٌ إقليميةٌ كبيرةٌ بحجم مصر، وقوّتان متوسطتان هما سورية والعراق، أسئلةً لا تحتمل التأجيل بشأن قضايا أمنها القومي، ومصالحها الإستراتيجية في الجوار والإقليم.

وما تقدّم يُمثّل، في الواقع، الحقيقة الغائبة، التي حجبها فيض من البلاغة والدسم القوميين، وكأن المشكلة، مع آخر موجات الكولونيالية الغربية في القرن العشرين، ثارات قبلية قديمة وتهويمات تُختزل في صراخ امرأة "وامعتصماه"، واستجابة "أمير للمؤمنين". وقد كان من الآثار الجانبية لهذا كله، وما زال (بل ويزداد الآن) التباهي بما "أغدق" العرب على الفلسطينيين، وما ضحّوا به من أجلهم، واتهامهم من حين إلى آخر بنكران الجميل. واليوم، عندما يربط البعض بين "التعاون" مع إسرائيل لتجاوز الماضي، وتحقيق التنمية والرخاء، ينطوي الربط مباشرة، أو مداورة، على الإيحاء بضرورة وضع المسألة الفلسطينية على الرف، وكأنها هي التي أعاقت مشاريع التنمية والرخاء.

والمفارقة اللاذعة والموحية، في مرحلة ما بعد القومية، أن القومية الدينية افتتحت أولى معاركها الكبرى في أفغانستان لا في فلسطين رغم أولوية وتفوّق رأس المال الرمزي لفلسطين في المدونّة والمخيال الدينيين، وأن القومية الدينية إن نجحت في شيء فقد تجلى نجاحها في زعزعة أسس دولة ما بعد الكولونيالية، التي أنشأتها الحركات الاستقلالية في العالم العربي، ناهيك، طبعاً، عن تحالفها العضوي مع الرجعيين والمحافظين، ونشاطها كمخلب قط للمعسكر الغربي في زمن الحرب الباردة.

نضع كل ما تقدّم في الذهن في معرض التمهيد لطرح فرضية جديدة مفادها أن ما تجلى من وضع للمسألة الفلسطينية على الرف، والركض باتجاه إسرائيل، يفتح أفقاً جديداً لتمكين الناظرين من وضع اليد على علاقة عضوية وموضوعية تتخلّق الآن بين المسألة الفلسطينية، وكفاح الشعوب العربية في سبيل استقلال (أُجهض في بلدان كثيرة) وعقد اجتماعي جديدين. بتعبير آخر، لم تكن الصلة بين ثورات "الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية" (الشعار الذي سيُخلّده التاريخ لثورة يناير المصرية وأخواتها العربيات) وبين مركزية المسألة الفلسطينية واضحة، في يوم من الأيام، كما هي الآن. ولكن، ما معنى هذا كله؟ ولماذا نرى فيه نافذة فتحها التاريخ؟

وبقدر ما أرى، فإن العثور على الجواب ينجم عن التفكير في أشياء من نوع: استحالة أن تصل "البراغماتية" السياسية، والمرونة الأخلاقية، إلى حد صرف النظر عن أشياء من نوع أن "صفقة ترامب" لا تنتهك القانون والشرعية الدوليين، فقط، وتاريخ عقود من المفاوضات، ومواقف الإدارات الأميركية السابقة، و"الإجماع" العربي، وحتى الحد الأدنى من مهارات السياسة الإمبراطورية، بل وتفعل هذا كله بقدر من عمى البصر والبصيرة يكفي لزعزعة المنطقة، وديمومة الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي مائة عام أُخرى.

فهل يُعقل أن تكون كل هذه الدلالات، وما تنطوي عليه من مخاطر، قد غابت أن أنظار وأذهان البعض في العالم العربي؟ لا أعتقد ذلك، فهم يُقدمون على مجازفة كهذه لأنهم في سباق مع الزمن كأفراد، وأنظمة، ونخب حاكمة وسائدة. فكل هؤلاء يجدون أنفسهم، في العشرية الثانية من القرن الحالي، بين فكي كماشة الربيع العربي من ناحية، و"داعش" بألوان طيفها المختلفة من ناحية ثانية. أو بلغة العهد القديم: "كمن يهرب من أسد فيلاقيه دُبٌ".

وبهذا المعنى، ودون الدخول في سياق أوسع، حول اهتزاز "الثقة" بالحماية الأميركية، خاصة في عهد أوباما، وحول تكالب الذئبين التركي والإيراني على كينونة فقدت مركز الثقل، وجثّة تحللت، اسمها العالم العربي، ينبغي النظر إلى مجازفة فرضها سباق محموم مع الزمن، كمكوّن أساسي في إستراتيجية الثورة المضادة، التي دبّرت انقلابات، وجنّدت ميليشيات، وأنفقت مليارات، وأشعلت حروباً أهلية، في محاولة تكاد تكون فاوستية لاحتواء "الربيع العربي"، وترويضه، وهزيمته، وفي الوقت نفسه نزع الشوكة القيامية الداعشية السامّة.

لذا، تبدو إسرائيل، على خلفية كهذه، شريكاً وحامياً مثالياً (أقل خطورة من الذئبين التركي والإيراني) لنخب حاكمة وسائدة تقبض على رقاب شعوب، وتمتص دمها، تحكمها بالرعب، وتبيعها أوهاماً مؤجلّة بالتنمية والرخاء شريطة التنازل عن الحق في "الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية". فالدولة التي صوّرها هرتسل، في زمن مضى، كقلعة متقدّمة تحمي الحضارة الأوروبية من البربرية الآسيوية مرشّحة في "الصفقة الترامبية" لتكون حارساً "للبربرية" التي تطوّعت لحماية الآخرين منها. وبهذا المعنى يصطدم الإسرائيلي، وقد أصبح حارساً للأمن في الإقليم، وشريكاً وحامياً للطغاة، بكفاح الشعوب العربية لإبرام عقد اجتماعي جديد.
ظهرت صياغات مختلفة وقريبة، إلى حد ما، في سبعينيات القرن الماضي، لأفكار كهذه في أوساط اليسار بأطيافه المختلفة، ولم تعمّر طويلاً. ومع ذلك، لم يسبق لحضورها في الواقع أن كان على كل هذا القدر من الوضوح كما هو الآن.

أخيراً، ثمة ملاحظة تخص الفلسطينيين: في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، وجناحها اليساري على نحو خاص (فصائل اليسار الحالية، بلا استثناء، هبطت بميراث يتسم بالغنى والتعددية إلى الدرك الأسفل) ما يمكننا من إغناء وبلورة وترجمة نافذة فتحها التاريخ بما يُعيد الاعتبار إلى علاقة عضوية مع الشعوب العربية، على طريق "الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية". أما قومية "حماس" الدينية فلن تُبقي لنا حليفاً يمكن الثقة به، والاعتماد عليه. لم نفرغ بعد. ولنا في الثلاثاء المُقبل عودة.

قد يهمك أيضا :  

تأملات في عالم مُتغيّر (4)

  تأملات في عالم مُتغيّر (5)

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تأملات في عالم مُتغيّر 6 تأملات في عالم مُتغيّر 6



GMT 22:40 2024 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب... وما ورائيات الفوز الكبير

GMT 21:38 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

سيمافور المحطة!

GMT 21:36 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

يراها فاروق حسنى

GMT 21:34 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

«بكين» هل تنهي نزاع 40 عاماً؟ (2)

GMT 21:32 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

ماذا حل بالثمانيتين معاً؟

تارا عماد تتألق بإطلالات عصرية ملهمة لطويلات القامة من عاشقات الموضة والأناقة

القاهرة ـ فلسطين اليوم
تلهم النجمة المصرية تارا عماد متابعاتها العاشقات للموضة بإطلالاتها اليومية الأنيقة التي تعكس ذوقها الراقي في عالم الأزياء، بأسلوب هادئ ومميز، وتحرص تارا على مشاركة متابعيها إطلالاتها اليومية، وأيضا أزياء السهرات التي تعتمدها للتألق في فعاليات الفن والموضة، والتي تناسب طويلات القامة، وهذه لمحات من أناقة النجمة المصرية بأزياء راقية من أشهر الماركات العالمية، والتي تلهمك لإطلالاتك الصباحية والمسائية. تارا عماد بإطلالة حريرية رقيقة كانت النجمة المصرية تارا عماد حاضرة يوم أمس في عرض مجموعة ربيع وصيف 2025 للعبايات لعلامة برونيلو كوتشينيلي، والتي قدمتها الدار في صحراء دبي، وتألقت تارا في تلك الأجواء الصحراوية الساحرة بإطلالة متناغمة برقتها، ولونها النيود المحاكي للكثبان الرملية، وتميز الفستان بتصميم طويل من القماش الحرير...المزيد

GMT 12:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 فلسطين اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 06:02 2020 الخميس ,04 حزيران / يونيو

لا تتهوّر في اتخاذ قرار أو توقيع عقد

GMT 13:42 2020 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 19:16 2020 الإثنين ,04 أيار / مايو

ينعشك هذا اليوم ويجعلك مقبلاً على الحياة

GMT 14:22 2020 الإثنين ,19 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الحمل الإثنين 26 أكتوبر/تشرين الثاني 2020

GMT 07:37 2019 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 07:39 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء مهمة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 22:52 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

هيفاء وهبي تتألّق بفستان مرصع بالكريستال

GMT 01:41 2020 الأربعاء ,08 تموز / يوليو

تحقق قفزة نوعية جديدة في حياتك وانطلاقة مميزة

GMT 05:58 2020 الخميس ,04 حزيران / يونيو

تعيش ظروفاً جميلة وداعمة من الزملاء

GMT 18:41 2019 الأربعاء ,13 شباط / فبراير

أميركا توسع قائمة العقوبات ضد إيران
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday