بقلم : حسن خضر
وصلنا إلى مشروع «الضم» الحالي كمحاولة لحسم نتائج حرب 1967 دفعة واحدة ونهائية، بعدما حسمت الحرب المذكورة نتائج حرب سبقت في العام 1948. بيد أن هذا لا يعني أن المحاولة الحالية هي الأولى من نوعها، فقد جرت محاولة، ربما كانت الأهم، في العام 1982، في محاولة القضاء على منظمة التحرير في الاجتياح الإسرائيلي للبنان. وجرت، أيضاً، ترتيبات من نوع إنشاء الإدارة المدنية، و»روابط القرى». والواقع أن قائمة الترتيبات والتصوّرات منذ «خطة آلون» طويلة جداً، وقد تجلى منها الكثير في مفاوضات كامب ديفيد مع السادات، وأخيراً (وليس آخراً) في مفاوضات أوسلو مع منظمة التحرير.
ومع ذلك، لم تكن ثمة تصوّرات موّحدة تحظى بإجماع كبار اللاعبين في الحقل السياسي الإسرائيلي. وأعتقد أن أفضل تفسير، في هذا الخصوص، جاء في كتاب لعالم الاجتماع الإسرائيلي، غيرشون شافير، في مناسبة مرور خمسين عاماً على احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة. ففي معرض التساؤل حول لماذا استمر الاحتلال على مدار كل هذه السنوات، قال شافير: إن هذا كله نجم عن الإحساس بأن مشروع الدولة لم يكتمل بعد.
وهنا تتجلى فرضيتي الأساسية في القول: إن كل ما وقع في الحقلين الثقافي والسياسي الإسرائيليين، منذ العام 1967، حول موضوع الديموغرافيا، والعلاقة بالآخر، و»اقتسام» الأرض، والاستيطان والمستوطنات، ومستقبل «الديمقراطية» الإسرائيلية، لن يُفهم بطريقة صحيحة خارج «الإحساس» بأن مشروع الدولة لم يكتمل بعد، وحقيقة أن الصيغة النهائية المُحتملة لمشروع الدولة غير واضحة تماماً، وتعتمد على ما يطرأ على «المؤقت» من تحوّلات، وما قد ينجم عن «مؤقت» جديد من مزايا، وأن طريقة الوصول إليها محط خلاف.
في يوم ما، قد يطول أو يقصر سيطرح مؤرخون على أنفسهم السؤال التالي: لماذا وصل مشروع الدولة الإسرائيلية إلى طريق مسدودة، وتفكك بطريقة درامية ومفاجئة؟ وبقدر ما أرى، لا يبدو من السابق لأوانه القول: فتّشوا عن فوضى «المؤقتات» والتوتر الدائم بين عناصرها، وما ينجم عن استملاكها للمخيال السياسي من يأس الوقوع في دائرة جهنمية مغلقة. على أي حال، هذا ليس موضوعنا الآن. وما يعنينا يتمثل في الذهاب، في معرض الكلام عن «الضم»، إلى مناطق لا تحظى بما تستحق من اهتمام على الرغم مما فيها من دلالات.
فكلمة «الاحتلال» مثلاً، كانت إشكالية في نظر الإسرائيليين منذ اليوم التالي للاحتلال في حزيران 1967. ولم يستقر الحال على تسمية معتمدة حتى الآن، مع ملاحظة أن تعبير «المناطق المُدارة» سقط من التداول، تقريباً، وأن «يهودا والسامرة» تسيّد في العقود الثلاثة الماضية، وأن مناطق «السلطة الفلسطينية»، و»الإدارة الذاتية» تُستخدم في الغالب كتعبيرات تقنية في موضوع التحويلات المالية، والعلاقة مع السلطة الفلسطينية، والاتحاد الأوروبي، والرباعية الدولية.. إلخ.
تنتمي كل هذه «المؤقتات» اللغوية، إذا شئت، وتعكس، أيضاً، تباين الرؤى بشأن مشروع الدولة، وماذا نفعل بـ «الضفة الغربية وقطاع غزة». وهذا كله على خلفية الخلاف السياسي والأيديولوجي الذي قسم الحركة الصهيونية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي إلى معسكرين. ومع ذلك، ثمة ما هو أبعد.
وأجد ما يبرر العودة، في هذا الصدد، إلى معادلة صاغها الصهيوني المُتديّن، يشعياهو ليبوفيتش (1903-1994)، أبرز «مثقف عام»، في إسرائيل ما بعد احتلال 1967، وأحد أبرز معارضي السيطرة الإسرائيلية على القدس الشرقية، بما فيها حائط البراق، الذي أطلق عليه في عبارة ذائعة الصيت «ديسكوتيك حائط المبكي». (سألتُ، ذات يوم، يسرائيل شاحاك عن حقيقة موقف ليبوفيتش ومبرراته، وسمعت منه إجابة طويلة يمكن الكتابة عنها في سياق الكلام عن تحوّلات الصهيونية الدينية في مُقبل الأيام).
على أي حال، قال ليبوفيتش في معرض نقد السيطرة الإسرائيلية، والتذكير بأهمية ومركزية القوانين الناظمة والمُنظمة للعلاقات والشرعية الدوليين: «ما لي ليس لي لأنني أقول إنه لي، بل لأن الآخرين قالوا أيضاً إنه لي». ومع هذا الكلام في الذهن يصح القول:
لقد عجز الإسرائيليون على مدار ثلاثة وخمسين عاماً مضت في انتزاع اعتراف صريح وفصيح من «المجتمع الدولي» (سمه ما شئت، وانتقد وهنه وقلّة حيلته، وحتى تآمره علينا، كما شئت) بشرعية الاحتلال، كما عجزوا منذ عام 1948 عن طرد موضوع اللاجئين، وحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرّف من جدول أعمال المنظمات والهيئات الدولية ذات الصلة.
وفي سياق كهذا، فقط، يمكن فهم «الفرصة التي قد لا تتكرر»، التي تكلّم عنها نتنياهو وأنصاره في معرض تسويق مشروع «الضم»، وتفسيرنا له كمحاولة مزدوجة للحسم شخصية وعامة. سيذهب الذهن على الفور، طبعاً، إلى فرضية أن كلام نتنياهو عن الفرصة التي لن تتكرر يستند إلى وجود شخص من فصيلة ترامب في البيت الأبيض، وإلى تحلل وتعفّن العالم العربي، ركض حكّام اشتعلت النار في ثيابهم باتجاه إسرائيل. وهذا كله صحيح.
ولكن الدلالة الأخطر لهذا كله تتمثل في تحويل كل ما تقدّم من عناصر إلى وسيلة لتدمير القانون والشرعية الدوليين. (وهذا، ولكي لا تأخذنا الظنون، قد يحدث). ومع ذلك، ثمة، هنا، ما هو أبعد من الفلسطينيين والإسرائيليين. ثمة، ثلاث قوى متحالفة ومتضامنة تهدد سلامة العالم وسلامه: أميركا الترامبية، وإسرائيل اليمين القومي ـ الديني، وخليط من العرب (مملوكي عثماني وسلطاني تُذكّر وجوه ممثليه بصورة حنّا آرندت عن «تفاهة الشر»). يسحب هؤلاء، كل على طريقته، من رصيد الفلسطينيين، ليبقى طافياً فوق الماء، ولكن المتضرر الأكبر هو العالم. ولنا عودة.