تكلمنا، قبل أسبوع، عن انزياح مركزية المسألة الفلسطينية، وهبوطها إلى قاع سلّم الأولويات لدى الكثيرين في العالم العربي، وأشرنا إلى فقدان مركز الثقل، وفراغ القوّة في الإقليم، وطموح ثلاث قوى صاعدة، هي إسرائيل وإيران وتركيا، وسعيها لملء الفراغ، ودور القوّة الإقليمية. ونستكمل، اليوم، التحليل بمحاولة التفكير في الصياغات التقليدية للمركزية، وتفسير لماذا يبدو في تطوّرات راهنة من نوع "صفقة ترامب"، وهرولة بعض العرب في اتجاه إسرائيل، ما يُضفي على مركزية المسألة الفلسطينية بعداً جديداً، ويمنحها حياة إضافية.
ولا إمكانية للتحليل والتفسير دون تشخيص واقع تشكّل منذ سبعينيات القرن الماضي، ويحصد العرب، في الوقت الحاضر، ثماره المرّة. ولا أجد صفة لهذا الواقع أفضل من تعبير "ما بعد القومية"، الذي نجم عن هزيمة الناصرية، وصعود الإسلام السياسي، وتحوّل دول متوسّطة كالعراق وسورية تُحكم بشعارات قومية، إلى دكتاتوريات سافرة.
وتلك نتيجة مؤسفة تماماً لنهاية الحرب الباردة العربية ـ العربية، التي تمترس فيها القوميون العرب تحت الراية الناصرية، في مجابهة المعسكر السعودي، الذي ضمّ خليطاً من المحافظين والرجعيين، وكان حليفاً للأميركيين، ومعسكر الرأسمالية الغربية عموماً، في الحرب الباردة.
ومن بين ثلاثة أسباب أسهمت في توليد وتكريس "ما بعد القومية" في العالم العربي، وأوصلت هذا العالم إلى ما هو فيه، وعليه، الآن، يمثل الإسلام السياسي المطرقة الهائلة التي انهالت على رأس القومية العربية، وأسقطتها أرضاً في سياق مشروع أُنفقت عليه المليارات، للقضاء على مصدر تهديد رئيس لمصالح الأميركيين وحلفائهم العرب.
ولم يكن هذا ليتأتى، وبالطريقة التي حدث بها، لولا عداء الإسلام السياسي لفكرة القومية العربية، وطرح بديل لها يتمثل بالقومية الدينية.
ولم يكن للأمرين أن يصبحا نوعاً من البارود شديد الاشتعال لولا مصادفة تبلور الاثنين في زمن الحرب الباردة العربية ـ العربية، والحرب الباردة الكونية، وحقيقة أن زواج أيديولوجيا الإخوان التقليدية، (التي بررت وجودها باستعادة الخلافة)، بالوهابية السعودية، التي تصادف أنها العدة الأيديولوجية لبلد كان في المعسكر المقابل للناصرية، وهبطت عليه ثروة خرافية من عائدات النفط قبل نصف قرن.
ستجد بين ممثلي الإخوان من يرتدون ربطات عنق، هذه الأيام، ويتكلّمون، بالفصحى طبعاً، في الفضائيات عن "الإسلام والديمقراطية وفلسطين"، وستجد من يرتدون ربطات عنق، أيضاً، ويتكلّمون، ويكتبون، وفي الأكاديميا الغربية، أيضاً (وأغلب هؤلاء يحمل ألقاباً عملية رفيعة، ويجهل ما يتكلّم عنه) عن السلفية ونزعتها المسالمة والسلمية، ورشيد رضا طبعاً، والوهابية المُهادنة، وبقية المعزوفة، وعن الجهاديين الجدد كانحراف عن الأصل.
وهذا كله يحدث في تحليلات فوق التاريخ والسياسة والاقتصاد، والشرط التاريخي لمراحل مختلفة تمر بها الأفكار، وإكراهات داخلية وخارجية تُسهم في بلورتها وانتقالها من طور إلى آخر إلى حد قد تختفي معه سماتها الأصلية. على أي حال، كان الالتحاق بالأميركيين في الحرب على الوجود السوفياتي في أفغانستان أواخر السبعينيات أوّل تجليات قومية الإسلام السياسي لا بوصفها قوّة أيديولوجية وحسب، ولكن بوصفها قوّة حركية مقاتلة، أيضاً، عابرة للحدود القومية التقليدية باسم قوّمية أعلى وأسمى من القومية العربية، اسمها الأمة الإسلامية.
ولا يخطر على بال أحد، بعد خراب مالطا في الوقت الحاضر، أن "الجهاد الأفغاني" كان يُراد له، ومنه، أن يكون مشروعاً مضاداً للحركة الفدائية الفلسطينية، وما كان يُعرف بقوى حركة التحرر القومي العربية، التي خاضت قتالاً تراجعياً على امتداد عقد السبعينات، وشكّلت نقطة جذب للقوميين والراديكاليين العرب في ذلك الوقت، أي في زمن لم تكن فيه البنية التحتية لعالم "ما بعد القومية"، أيديولوجيا ونخباً حاكمة وسائدة، قد اكتملت بعد.
ولم تكن مفارقات من نوع أن القوميين الإسلاميين الجدد يقاتلون في مكان يبعد آلاف الكيلومترات عن فلسطين، وهي أكثر قداسة، في التقليد الإسلامي، من كل أفغانستانات العالم، مثيرة للانتباه، بل كانت حقيقة مزعجة ينبغي طردها من النقاش العام. ولم تكن مفارقات من نوع أن القوميين العرب خاضوا حروبهم ضد إسرائيل بسلاح السوفيات والكتلة الاشتراكية، بينما قاتلت إسرائيل العرب وقتلتهم بسلاح الأميركيين، الذين شاءت "الصدف" أن يصبحوا هم، لا غيرهم، حلفاء القوميين الإسلاميين الجدد، ورعاتهم، مصدر قلق وأسئلة وتساؤلات.
لا يتسع المجال، هنا، للاستطراد في هذا الموضوع، بل يكفي القول إن انخراط محافظين ورجعيين، جاؤوا من القرون الوسطى، في القتال دفاعاً عن "دار الإسلام" في أفغانستان، كان التجربة التكوينية الأولى للقومية الإسلامية الجديدة بوصفها قوّة حركية مقاتلة وعابرة للحدود، وحجر الأساس في تكريس واقع "ما بعد القومية" في العالم العربي. ولنلاحظ أن لا إمكانية لإنشاء واقع جديد دون بنية تحتية بالمعنى السياسي والأيديولوجي والاقتصادي.
فطلائع القومية الدينية الجديدة على الحدود الباكستانية ـ الأفغانية، وشبكاتها الرسمية، والأهلية، في بلدان المنشأ، لم تكن أكثر من رأس جبل الجليد العائم.
ففي الأعماق جرت محاولة، ناجحة للأسف، لتصفية ميراث التنوير العربي، على مدار مائة عام، لأنه كان الحاضنة الموضوعية للقومية العربية. وفي سياق هذه المحاولة، بالذات، وُلد ما نَعرف ونُعرّف اليوم بـ"سياسات الهوية".
ولم يكن لواقع كهذا أن يصبح ممكناً دون ما لا يحصى من المغفلين المفيدين (بمنطق عبارة تُنسب إلى لينين)، والأقل غفلة، طبعاً، أعني في الحقل الثقافي، ودون إدراك أن التجربة المعنية كانت مشروعاً لدول مركزية لديها أجهزة إعلام، ووزارات ثقافة، و"مثقفين"، ومخابرات، ومطابع، وأرصدة في البنوك، ومؤسسات أهلية، وجمعيات خيرية، ومنظمات إقليمية، تأتمر بأمرها. هذه الديناميات مجتمعة هي التي أنجبت عالم "ما بعد القومية". لم ننته بعد. لدينا المزيد في معالجات لاحقة.
قد يهمك أيضا :
تأملات في عالم مُتغيّر (2)
تأملات في عالم مُتغيّر (3)