لأول مرة بهذا الوضوح، تشهد الساحة اللبنانية اهتزازاً جلياً للعلاقة ما بين التيار الوطني الحر برئاسة جبران باسيل، و"حزب الله"، ويبدو أن تفاهم كنيسة مار مخايل، الذي أبرمه الجنرال ميشال عون، مع الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله في 2006، والذي أوصل الجنرال إلى سدة الرئاسة، بدأ يتأرجح بقوة على وقع أسوأ أزمة اقتصادية ومالية يشهدها لبنان.
ورغم أن للطرفين مصلحة في الحفاظ على تحالفهما السياسي، ولو من موقع تنظيم الاختلاف، و"حزب الله" حريص على العلاقة، ولكن من المبكر دعم باسيل في معركة الرئاسة.
فالحزب لا يمكنه وعد باسيل بدعمه في معركة الرئاسة الأولى، في ظل السخط الشعبي الكبير على الرجل. الذي يعتبر الكثيرون أنه فشل فشلاً ذريعاً وتسبب في انهيار الاقتصاد عبر استنزاف قطاع الكهرباء.
وباسيل لا يحظى برضا من القوى السياسية الرئيسية التي تشكل البرلمان الحالي، ولا برضا خارجي، وهذا ما سيتسبب بأزمة مفتوحة في حال دعم الحزب لباسيل ضد سليمان فرنجية - حليف "حزب الله" التاريخي- والمرشح الأبرز للرئاسة في وجه جبران باسيل.
ومنذ أن خرج جبران باسيل، مستخدماً عبارة "قوى الأمر الواقع"، في إطار تحميله "حزب الله" المسؤولية الناتجة عن انفلات المعابر على الحدود اللبنانية السورية وعمليات التهريب، مطالباً بضرورة اتخاذ قرار سياسي وأمني لإغلاقها وحماية الصناعة والاقتصاد اللبناني، توالت الرسائل النارية من جانب قيادات "التيار الوطني" في صندوق بريد "حزب الله" بضوء أخضر من باسيل.
ووصلت سهام التيار العوني إلى حد ملامسة قضية سلاح الحزب الوجودية، والتلويح بخطر انكشافه داخلياً وخارجياً، ووصل الأمر إلى دعوة آلان عون، وهو ابن أخت ميشال عون، إلى إقرار إستراتيجية دفاعية يتولاها الجيش اللبناني، وليس كيانات بعينها، ومروراً، بالتصريح الأجرأ، للنائب العوني، زياد أسود، بأنه لا يمكن حمل البارودة بكتف، بينما الشعب جائع.
وتثير المواقف الأخيرة للتيار العوني ضد "حزب الله" تساؤلات عدة على الساحة السياسية اللبنانية حول عما إذا كان التيار وزعيمه جبران باسيل بصدد فك الارتباط مع الحزب الموالي لإيران وإعادة التموضع سياسياً، أم أن ما يحصل لا يتجاوز كونه محاولة ابتزاز و"قرصة أذن"، خاصة أن زعيم التيار باسيل لا يزال يراهن على العلاقة مع الحزب لتكريس نفوذه وتعبيد الطريق إلى قصر بعبدا.
الاهتزاز في العلاقة الذي يأتي في سياق انهيار مالي يشهده لبنان، سرعان ما ارتبط برؤية مالية جديدة يحاول التيار الوطني الحر التسويق لها مستفيداً من أجواء في المجتمع المسيحي، لا سيما لدى المتمولين، تطالب بما بات يصطلح على تسميته "لامركزية مالية وإدارية"، بعد إغراق "حزب الله" الأسواق اللبنانية ببضائع يتم تهريبها عن طريق المعابر غير الشرعية مع سورية، وأيضاً عبر المرافئ والمطار.
ووسط موجات من التململ المسيحي، بوجه فكرة تدفيعهم الثمن الاقتصادي لالتحاق التيار العوني بـ"حزب الله"، ومجافاة دول الخليج.
وطبقاً للمعلومات، فإن هذه الأجواء ظهرت جلية مع اجتماع عقدته مرجعية كنسية في لبنان، جمع شخصيات مسيحية من جميع الأطراف، دعت لاتخاذ خطوات عملية في سبيل الحفاظ على الوجود المسيحي، والذي يتهدده بعدم استقرار الواقع الاقتصادي، ومنها اللامركزية المالية والإدارية.
ويشير المراقبون إلى أن التيار لا يزال بعيداً عن اتخاذ قرار برسم مسافة من الحزب أو فك الارتباط معه، ذلك أن طموحاته مقرون تنفيذها أساساً بهذه العلاقة، وأن باسيل حانق على "حزب الله" لعدم مجاراته في أكثر من ملف ومسايرته لتيار المردة - سليمان فرنجية - الذي خصص مؤتمره الصحافي للهجوم على باسيل وتياره وتحميلهم ملفات فساد في قطاعي الكهرباء والنفط، ولحركة أمل - نبيه بري- الذي يقف ضد قرارات حكومية يقف وراءها باسيل، يسعى لتذكير الحزب بدينه. فإما أن يذعن "حزب الله" للوقوف كلياً إلى جانب باسيل في معركته السياسية من دون مواربة ولا مراعاة لحليف من هنا وحليف من هناك، وإما أن سلاح الحزب سيكون عرضةً لنزع الغطاء المسيحي عنه الذي يوفره له التيار الوطني صاحب أكبر كتلة برلمانية.
وأدى موقف بري، الحليف الأقرب لـ"حزب الله"، إلى سقوط حلم باسيل في الإطاحة بالحاكم المركزي للمصرف، ما يعتبره باسيل طعنة بالظهر في ميدان التحضير المبكر للانتخابات الرئاسية التي يسعى باسيل فيها لخلافة حماه رئيس الجمهورية ميشال عون بأي ثمن سياسي.
وما زاد من حدة الانفجار تصويت وزراء "حزب الله" في حكومة حسان دياب على رفض إنشاء معمل كهرباء في منطقة سلعاتا، والذي يحاول باسيل بناءه لخلفيات سياسية مسيحية، معتبراً أن الشيعة يمتلكون معمل منطقة الزهراني، والسُّنة لديهم معمل في طرابلس.
لكن المشروع سقط بالضربة القاضية، لأن "حزب الله" اعتبر أن المشروع غير مجد ويستنزف ميزانية دولة منهارة اقتصادياً، في ظل سعي باسيل لتمرير صفقات تخدم شعبيته الحزبية كمشروع سد في منطقة الشوف الذي أصر باسيل على تنفيذه فيها بقيمة 650 مليون دولار، ولم يعمل "حزب الله"، بحسب أوساط تيار باسيل، على المضي في المشروع، ليسقط مرة جديدة في أروقة مجلس الوزراء.
ولا يخفي باسيل حنقه على "حزب الله"، الذي يرفض إقرار قانون العفو العام الذي يشمل عملاء لبنانيين فروا من لبنان.
ويرى البعض أن المواقف الأخيرة لقيادات تيار باسيل تعكس شيئاً أساسياً آخر لا يقل أهمية، وهو أن التيار يقرأ عن كثبٍ التحولات التي تجري في المنطقة، وإصرار الإدارة الأميركية على خنق إيران وأذرعها في المنطقة وعلى رأسها "حزب الله". ويشدد على أن تشكيل الحكومة العراقية الجديدة حمل رسالة إلى الأفرقاء اللبنانيين بأن واشنطن عادت للعب بقوة في مناطق نفوذ طهران، وهذا ما يجعل التيار أمام مفترق طرق مصيري، وأنه سيضطر في مراحل قادمة، إلى التخلي عن نقاط أساسية في تحالفه مع الحزب.
كما أن باسيل تلقى تهديدات أميركية مستمرة بأن العقوبات ستشمله في حال بقي بخط تغطية "حزب الله" والسير في سياساته.
ولهذا السبب تحرك باسيل بعيداً عن الأضواء لتطبيع علاقاته بالولايات المتحدة، كما صدرت سلسلة تصريحات لقيادات التيار العوني ليست بعيدة عن جو مغازلة واشنطن والخليج، وإسماعهم ما يريدون سماعه.
والأهم هو أن هناك مجموعة مؤشرات غير مطمئنة قد تسمح لدعاة الفدرالية بالنفاذ من خلالها لتحقيق مشاريعهم، مع وضع "صفقة القرن" على سكة التنفيذ، والمخاوف من أن يؤدي الانهيار المالي إلى قيام ثورة ينتج عنها عقد اجتماعي جديد ينتج بدوره نظاماً سياسياً وهندسة اقتصادية جديدَين، يكون حبلها الرابط فدرالية معلنة مباشرة أو مغلّفة بغطاء اللامركزية المالية.
قد يهمك أيضا :
عن الموقف الروسي من بشار الأسد
صندوق النقد.. الملاذ الأخير للبنان!