تحدث رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب، قبل أيام، عن الانقلاب، وأن هناك من يريد الانقضاض على الحكومة، على وقع الأحداث العنيفة التي شهدتها بيروت وطرابلس، محولةً وسط بيروت الى ساحة حرب- تخريباً وتكسيراً وإحراقاً- والذي فجرها الارتفاع الهستيري للدولار أمام الليرة اللبنانية. ولكن دياب لم يتطرق الى ما انقلب هو عليه من الإصلاحات السياسية التي وعد بها، وخضوعه لإعادة تمرير معمل خاص بالتيار الكهربائي لحساب جبران باسيل، وتمريره لسلة التعيينات التي شكلت محاصصة فاقعة لما يسمى «قوى الممانعة».
وحاول خطاب دياب الأخير، رفع المسؤولية عن نفسه مما آلت اليه حال لبنان الاقتصادية والمالية، في حين أنه مسؤول وشريك ايضاً فيها لمجرد قبوله تولي هذه المهمة المستحيلة.
وبالرغم من الوقت الطويل الذي استهلكته حكومة دياب وكثرة اللجان التي الفتها والاستعانة بجيش من المستشارين لم تستطع تقديم خطة إنقاذ متكاملة، ولم تتعاط بمهنية مع المصرف المركزي وجمعية المصارف للتفاوض مع الصندوق بموقف موحد، بل تعاطت بعقلية انفعالية وبخلفية سياسية مكشوفة بإطار تصفية الحسابات بين الفريق العوني وحزب الله مع حاكم المصرف المركزي وجمعية المصارف، ما أبقى الانقسام قائماً وجعل المفاوضات مع الصندوق تدور في حلقة شبه مفرغة.
الأهم، أن هذه الحكومة تكشف يوماً بعد يوم عن عجز مقيم تجاه إظهار إرادة التغيير والقيام بالإصلاحات، بل عن استسلام مقيم لمنظومة السلطة التي ألفتها، والتي هي شديدة الانتباه لمصالحها غير المشروعة، والتي تنظر للإصلاح بأنه معول لتفكيكها وتقويضها، وللطائفية، بأنه الدرع الواقي.
وعلى هذا المقياس فانتفاضة ١٧ تشرين وامتداداتها تبقى هي ما يهدد هذه المعادلة السلطوية، لأنها عاجزة بطبيعتها أن تكون طائفية او مذهبية، فهي قامت على نبض مناقض للمحاصصة وعلى نقيض مشروع السلطة في إدارة الدولة، وهي غير قابلة بطبيعتها أيضا على الانخراط في نظام المحاصصة، رغم كل ما يمكن أن يطالها من نقد أو خيبات، وهذا ما يخيف أركان السلطة في لبنان، الذين لا يتركون فرصة إلا ويستغلونها، لتخويف وتنفير الناس منها.
ورست الأمور في المواجهة الأخيرة على واقع محدد، كانت انتفاضة 17 تشرين الأول الخاسر الأكبر فيها. فقد تمكن حزب الله من ركوب موجة انتفاضة الدولار، وأعاد توجيه المعركة ضد مصرف لبنان والمصارف كهدف أساسي للتظاهرات، وانجر معه بعض اليسار، وكأنه كرس خطوطاً في المواجهة مع الأميركيين، تضاف إلى ما تكرس في التعيينات التي مررها رئيس الحكومة بلا أي اعتراض ومن بينها أسماء لنيابة حاكم مصرف لبنان يسلمون بالكامل لقوى الثامن من آذار.
وهذا يعني أن “حزب الله” قرر المواجهة من قلب الحكومة، وهو أخذها بموافقة رئيسها الى رفض كل ما يطالب به الاميركيون خصوصاً مع بدء تطبيق “قانون قيصر” مستبقاً أي محاولة لدفع الحكومة إلى التفاوض حول ضبط الحدود غير الشرعية وأخذ النقاش الى مكان آخر في الداخل شكل مصرف لبنان عنوانه الرئيسي، وذلك بعد السجال حول إقالته، علماً أن الحزب له مطالب يريد من رياض سلامة حاكم المصرف تنفيذها والسير بها، وهو ما حصل في ما يتعلق بضخ الدولار في السوق اللبنانية.
وواضح من تحليل نتائج جولات العنف المتتالية أن المطلوب حالياً ترهيب وترويض رياض سلامة لإخضاعه، «وقصقصة جوانحه»، بعدما بات معروفاً ان ثمن اقالته يفوق قدرة اي طرف على تحمل كلفتها. هذا في المضمون. أمّا في الشكل فقد يختلف الإخراج وفقاً للحاجة والتوازنات وضرورات الأمر الواقع.
ولعل الاختبار الأهمّ يكمن في نجاح «مسرحية» التوافق السياسي-المالي المعلن من بعبدا، والذي كان عرابه رئيس مجلس النواب نبيه بري، والذي يقضي بضخ البنك المركزي للدولار في السوق، في ظل شكوك حقيقية عن قدرته المركزي على التدخل بما يكفي للجم انهيارٍ بات كبار القوم من العاملين على خطّ التخفيف من سرعته يجزمون بصعوبة تفادي وقوع الكارثة طالما الثقة السياسية مفقودة والدولار على حافة «الانقراض» واحتياطي مصرف لبنان سيتعرض للنزف بشكل خطير.
وكل ذلك يجري مع تبلغ المراجع اللبنانية المسؤولة عبر الاقنية الدبلوماسية أن لبنان كدولة سيتعرض قريباً لعقوبات أميركية جديدة، سواء من بوابة قانون قيصر أو غيرها. وأن واشنطن ترى أنه آن الآوان للبنان في ظل الأزمة المتفاقمة التي يعيشها تأليف حكومة مستقلة رئيساً وأعضاء تُعطى صلاحيات استثنائية لمدة 6 أشهر، والرجوع إلى «إعلان بعبدا» في ما يتعلق بسلاح المقاومة.
ولعل ما يحدث الآن في لبنان شبيه بما حدث عام 1988 عندما أطلق ريتشارد ميرفي المساعد الأسبق لوزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط مقولته الشهيرة «مخايل الضاهر أو الفوضى»، لمناسبة النزاع السياسي الذي دار يومها حول استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية في نهاية عهد الرئيس أمين الجميل، فنحن الآن أمام معادلة: «إمّا رفع الغطاء المسيحي عن «حزب الله» وإمّا الفوضى».
وعلى الرغم من أن المنظومة السياسية في لبنان لا تمتلك، بدائل عن حكومة حسان دياب، وهي أصلاً غير متوفرة، لكن لا تبدو الأطراف التي استبعدت من الحكومة مستعدة للقيام بتسوية تساعد الحكومة على استيعاب الشارع، وإعادة ضبطه.
من هذا المنطلق، فإن ما يجري في المرحلة الراهنة بين الحكومة ومعارضيها، لن يقف عند الحدود الحالية، بل هو مرشح ليبلغ الذروة، خصوصاً وأن الجميع أصبح محكوماً بسقف الشارع وحراك الناس، وإن كانت الأحزاب الثلاثة المعارضة -القوات لبنانية والمستقبل والتقدمي الاشتراكي- تعلم أن عقبات عدة تحول دون إسقاط الحكومة في الشارع، بحيث أن الفراغ في ظل الأزمة الاجتماعية ينذر بتحويل البلد إلى «كرة نار» ملتهبة لا يمكن أن يتحمّل مسؤوليتها أي طرف سياسي داخلي مهما كان رصيده الشعبي كبيراً، بالإضافة إلى أن الرئيس سعد الحريري قد أعلن صراحة أنه لا يريد أن يعود إلى رئاسة الحكومة لأكثر من سبب مرتبط بشعبيته وظروفه الحزبية وظروف البلد.
وعلى كل حال، لم يعد بإمكان اللبنانيين الذين امتلكوا سابقاً كماليات التمتع بالدولار والتشدق بالنضال ضد الإمبريالية التوفيق بين المسألتين، الأمر أصبح شبه مستحيل.
قد يهمك أيضا :
صندوق النقد.. الملاذ الأخير للبنان!
ميركل مديرة أزمات أوروبا