ما ساقه رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب من مضبطة «اتهامية» في حق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بعد ملحمة الدولار، الذي وصل إلى أربعة آلاف ليرة لبنانية، هو البلاغ الرقم واحد لطلائع انقلابية على النظام اللبناني بكل ما تحمله من معايير خطيرة. وثمة من يتحدث عن مزيد من صدمات صاعقة ستنشأ عن فتح ملف المالية العامة على غاربه، وعن انزلاق الأمور إلى حافة الهاوية، في حال الإصرار على جعل سلامة كبش محرقة، وتحميله وحده وزر الملف المالي المنهار، وإفلاس الدولة، رغم الزواج السري والتحالف المديد الذي جمع سلامة مع الطبقة السياسية في لبنان لعقود.
مع استشعار دبلوماسي غربي بأن هناك في السلطة اللبنانية من يستغل غرق العالم في جائحة كورونا، للإطاحة بالمعادلة الداخلية اللبنانية، من قبل الحكومة الحالية، التي لا ينظر إليها الغرب سوى أنها حكومة «حزب الله». وبدت مضبطة الاتهام، غير مسبوقة في تاريخ علاقات السلطة التنفيذية مع حاكمية مصرف لبنان، وحيال الرجل الذي يحتل الموقع الأول في هندسة السياسات المالية والنقدية منذ أوائل التسعينيات.
كما أن في الهجوم الدراماتيكي الذي شنه دياب القادم من الفضاء على سلامة، واتهامه بالتلاعب في الدولار إهانة لموقع رئيس الحكومة، الذي يعرف انتهاكات موظف ولا يستطيع سوقه إلى القضاء.
إذ تحدث دياب عن الغموض المُريب في أداء حاكم مصرف لبنان «معتبراً أن المصرف» عاجز أو مُعطّل أو أو مُحرّض على هذا التدهور المُريب.
إلا أن هذا الحديث بدا منسجما تماما مع مجمل الوضع السياسي والمصرفي والمالي المنهار، ويسير جنبا إلى جنب مع مرحلة الاقتصاص من الحريرية السياسية والفريق السياسي العريض الذي يخاصم العهد، و»حزب الله»، مع انهيار التسوية الرئاسية بين عرابيها جبران باسيل وسعد الحريري. مع إن إقالة حاكم المصرف غير قابلة للتطبيق قانونيا، كونه يتمتع بصلاحيات واسعة بموجب المادة 26، إلا أن إحراج الحاكم لإخراجه، أمر ممكن.
وفجر الانهيار المالي والتدهور الحاصل بسعر صرف العملة، الشارع مجددا، رغم قرار التعبئة العامة بسبب «كورونا»، ولكن الأخطر، الهجمات المتكررة على المصارف اللبنانية، لتعيد للذاكرة التفجير الذي استهدف بنك لبنان والمهجر في 2016. حينها كانت الرسالة واضحة إلى رياض سلامة، من «حزب الله» نظرا لالتزامه التام بتطبيق المعايير الدولية المتبعة لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
اليوم، السيناريو نفسه يتكرر ولكن الأدوات اختلفت والمعطيات تبدلت، مع قيام «حزب الله»، والتيار العوني، بشيطنة رياض سلامة وتحميله وحده وليس بشكل جماعي، مسؤولية ما وصل إليه الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي في البلاد، مستخدمين أداتين أساسيتين من باب الضغط عليه: انهيار الليرة اللبنانية والتهويل بأن ودائع الناس قد «تبخرت».
ويخوض «التيار الوطني الحرّ» و»حزب الله» معركة تطيير واقتلاع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لأهداف سياسية. وبالنسبة للحزب فسلامة هو «مهندس» تطبيق العقوبات الأميركية في لبنان على «حزب الله»، وبالتالي فإن غيابه يعني بسط نفوذ الحزب على القرار الاقتصادي بشكل كامل.
وخصوصا أن تعاميم سلامة الأخيرة للمصارف حول تسهيل سحب المودعين مدّخراتهم بالدولار بعد تحويلها إلى الليرة اللبنانية، بسعر الصرف في سوق الصيرفة (بلغ 3600 ليرة للدولار) بدلاً من السعر الرسمي (1515)، قلّصت قدرة الحزب على شراء الدولار وتخزينه، لأن العملية قضت بأن يستردّ مصرف لبنان العملة الصعبة من المواطنين.
والتيار الوطني الحر وحسان دياب بدرجة كبيرة يحاربان سلامة كونه يمثل نفوذ «الحريرية السياسية» في السلطة النقدية منذ العام 1993. وهما يسعيان لوضع اليد على ما تبقّى من مواقع إدارية عليا في الدولة اللبنانية محسوبة على سعد الحريري.
وتتهم قوى في المعارضة دياب بأنه يستمد فائض القوة في هجومه على سلامة من تشكيل «غرفة أوضاع» على غرار الغرفة التي أنشأها الرئيس إميل لحود وكانت وراء استهداف رفيق الحريري وتوقيف العجلة الحكومية، وترى أنه بالنيابة عن عون يتزعّم دياب القيام بانقلاب يطيح بالنظام المصرفي اللبناني الحر، من دون إعفاء سلامة من أخطائه.
ولكن القصة أعقد من تنفيذها، وقد تصدى لها نبيه بري، الذي قال: «ليعلم الجميع، إنني لا أدافع عن سلامة ولكن أدافع عن لبنان. وإذا لم يبق مصرف لبنان يا أخوان، ليعلم الجميع ان أموال المودعين قد طارت الى الأبد، وسيصل الدولار إلى خمسين ألفا».
كما أن القصة في جانب آخر، ان السفيرة الأميركية الجديدة أبلغت، جبران باسيل ومن يعنيهم الأمر ان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة خط أحمر - كما سلاح «حزب الله» خط أحمر بالنسبة الى إيران. وخطوط الحزب السلكية، وهي شبكة اتصالات موازية لشبكة الدولة، خط أحمر بالنسبة الى الحزب - وأن إقالة سلامة ستؤدي إلى حجز أموال لبنان وذهبه في الولايات المتحدة البالغة عشرين مليار دولار واعتبار هذه الأموال هي لـ»حزب الله».
وينبع الموقف الأميركي من خطّ استراتيجي متبع منذ سنوات يتعلّق بتجفيف ما تسميه مصادر تمويل الإرهاب وليس مرتبطاً بدعم أي شخص. كما أن الصرح البطريركي لن يسمح بإقالة شخصية مارونية رفيعة بهذا الشكل، فقد رفع الكاردينال بشارة الراعي عصا بكركي في وجه رئيس الحكومة، وتساءل عن المستفيد «من زعزعة حاكمية مصرف لبنان؟ والجميع يعرف النتيجة الوخيمة وهي القضاء على ثقة اللبنانيين والدول بمقومات الدولة الدستورية. وهل هذا النهج المغاير لنظامنا السياسي اللبناني جزء من مخطط لتغيير وجه لبنان؟ يبدو كذلك!».
ونزل موقف الراعي كالصاعقة على من أراد خوض معركة إقالة سلامة، خصوصاً أن البطريرك أدرك أن هناك انقلاباً على نموذج لبنان ونظامه وتغيير وجهه. أما سعد الحريري، فلم يتأخر رده، ففي بيان ناري، هو الأول من نوعه، هاجم الحريري دياب قائلا: لقد أبليت بلاء حسناً، وها انت تحقق أحلامهم في تصفية النظام الاقتصادي الحر. انهم يصفقون لك في القصر ويجدون فيك شحمة على فطيرة العهد القوي.
لقد استدرجت الحكومة اللبنانية نفسها إلى مواجهات من هذا النوع، ولكنها لا تملك عناصر المواجهة ولا مقوماتها، وهي في أضعف لحظة سياسية بسبب الأزمة المالية التي لا تعالج سوى على قاعدة التبريد السياسي، والانكباب على معالجة الوضع المالي من جهة أخرى. وكانت نقطة قوة الحكومة في لجوئها إلى خطوات إصلاحية بالجملة، فيما نقطة ضعفها ودعستها الناقصة، هي في خطواتها الانتقائية بالمفرّق للتشفّي السياسي وليس للإصلاحي.
قد يهمك أيضا :
عن وباء يحتوي العالم
"كورونا" والقرية الكونية