يواصل فيروس كورونا مهاجمة البشرية جمعاء، وقد أعلن الحرب من طرف واحد بلا هوادة، غير معترف بحدود أو جنسيات. كما لا يوجد لديه قواعد للحرب أو للسلم، والأدهى أنه غير منظور، هو موجود في كل مكان، وغير موجود في الوقت نفسه. موجود على الأيدي والرأس والأنف والوجه وعلى أي سطح. يعتقد من يغادر منزله أنه يحمل الفيروس مع كل خطوة يخطوها، أو أن غيره يحمله.
كل شخص متهم ما لم يثبت العكس. يحظر السلام بالأيدي وطبعاً التقبيل وبالأحضان، ومن يخالف سيدفع ثمناً باهظاً. البراءة من الفيروس تتحقق بالتعقيم وتفقد صلاحيتها مع أي تحركات أو استقبالات جديدة. تغيرات ما كانت لتحدث من دون هذا الفيروس اللعين الذي هبط بهيبة وكفاءة وقوة الدول العظمى إلى الحضيض. الأقوياء بدوا غير أقوياء وغير مقنعين بل متهمين، والضعفاء وضع الفيروس مصيرهم على أجندة «يكونون أو لا يكونون».
لكن الأهم هو تفاعل واستجابة المجتمعات فيما بينها وداخل المجتمع الواحد، لا سيما المجتمع الفلسطيني الذي يستدعي وقفة تأمل ورصد من زوايا مختلفة. أغلقت المدارس والجامعات والملاعب والمقاهي والمطاعم والأماكن العامة، وتوقفت الصلوات الجماعية في المساجد والكنائس، وأغلقت المتاجر عدا المتخصصة بالأغذية والفواكه، واستثنيت الصيدليات أيضاً. وأصبح الجميع مطالباً بالبقاء في المنازل لتفادي الإصابة بكورونا.
ليس هذا وحسب بل إن تفادي الإصابة يستدعي الأخذ بالتباعد الاجتماعي. معروف أن العائلة السائدة في المجتمع الفلسطيني هي العائلة الممتدة التي تضم عشرات في الأغلب، والأسرة الممتدة ترتبط بالحمولة أو العشيرة التي تضم لفيفاً من الأسر الممتدة. ولوحظ أن مستوى انضباط هذه الأسر للتباعد الاجتماعي ضعيف، ما أدى انتشار الوباء وسط تلك العائلات عندما تتصادف إصابة أحد أفرادها.
خلافاً لذلك تقتصر الأسرة النووية – محدودة العدد- على نخب اجتماعية وثقافية محدودة. الأسرة الممتدة إضافة للثقافة التي تتكون من عادات وتقاليد، ومنظومة قيم وطنية (كالتعامل مع الشهداء والأسرى المحررين) والتضامن معهم بمشاركة قرى ومدن. أدى ذلك إلى تقويض التباعد وكأن الوباء غير موجود ولم يكن، ومدارس دينية متشددة يعتقد دعاتها أن الوباء لا يصيب المؤمنين المسلمين ويقتصر على الكفار وعندما جرى تحويل الصلاة إلى البيوت خالف عشرات الشيوخ الحظر المؤقت وأموا في المصلين جماعة داخل المساجد، ما دفع سلطة الطوارئ إلى اعتقال المخالفين في الخليل وسلفيت وتكررت المخالفات في قطاع غزة.
للتباعد الاجتماعي مقومات فلا يتوفر لدى نسبة كبيرة من العمال والشغيلة المياومين (عمال البناء وسائقو البإصات وسيارات الأجرة والسيرفيس والعاملون في ورش القطاع الخاص المتوقفة، والعاملون في المستوطنات وداخل الخط الاخضر) هؤلاء حيث العدد الضخم ممن ليس لديهم عمل يتمركز في قطاع غزة يفتقدون بتفاوت إلى مقومات البقاء في المنازل وترجمة الحجْر الصحي، لأن «من لا يعمل لا يأكل» في ظل الاقتصاد النيوليبرالي المتوحش المفروض على الأراضي الفلسطينية المحتلة، في غياب التزام أجزاء اساسية من القطاع الخاص بقانون العمل، وفي غياب مؤسسة ضمان اجتماعي لها قانون يحمي العمال أثناء الضائقات.
وقد تبين أن معركة إلغاء قانون ومؤسسة الضمان الاجتماعي قبل نصف عام لم تكن في مصلحة السواد الأعظم من العاملين. في غياب ذلك يبدو أن الاتفاق المبرم بين القطاع الخاص ووزارة العمل لم يطبق إلا من البعض، وهو ينص على صرف نصف راتب للعاملين في القطاع الخاص على مدى شهرَيْ آذار ونيسان. قضية أخرى هي الاكتظاظ السكاني في ظل نظام الأسرة الممتدة، خاصة في قطاع غزة، حيث يعيش في الغرفة الواحدة ما بين 3- 4 أفراد في المتوسط.
في الوقت الذي كان فيه أفراد الأسرة الممتدة موزعين في المدارس والجامعات وأماكن العمل، نجدهم قد تجمعوا وسط ضغطين ضغط الحاجة المادية وضغط الخوف من مرض كورونا. وما يسببه هذا الحال من إحباط واكتئاب. الوضع الذي يتفاقم بالحصار وبشح الموارد، يفسر لماذا واصل العمال عملهم لدى المشغلين الإسرائيليين، وما ترتب عليه من نقل العدوى بفيروس كورونا. ويفسر طغيان الوطني التلقائي على الأمان الشخصي والجمعي.
ولأن الحفاظ على الأمان الشخصي والجمعي شرط لا غنى عنه للدفاع عن المصلحة الوطنية العليا، فإن هذا التناقض قابل للحل بالانتقال من الخطاب الوطني التقليدي إلى الخطاب الوطني الاجتماعي الذي يرى في المواطنين صانعين للتحرر والخلاص من الاستيطان الاستعماري. ورافعة لتطوير مجتمعهم وبلدهم. عودة التعاون والتضامن بين أبناء الشعب الواحد، أكدت أصالة هذا التقليد الشعبي الذي يترافق دائماً مع وجود أزمة وتحديات كبرى.
في أزمة جائحة كورونا يتطوع الشبان والشابات في تطبيق الحجْر الصحي وإجراء الفحوص والتعقيم وجمع المواد الغذائية والمنظفات، وإعادة توزيعها على الذين يعانون من ضائقة اقتصادية، وإيصال الأدوية للمرضى، وتوزيع التعليمات الصحية والمساعدة في تطبيق قرارات وزارة الصحة. لقد انتشر المتطوعون في كل القرى والمخيمات وأحياء المدن، وكانت البداية مشجعة. وهي بلا شك تحتاج إلى تطوير في مجال الزراعة كتسويق منتجات المزارعين ودعم مشاريع استصلاح الحدائق والأراضي، ودعم الابتكارات وتطوير الموارد من داخل المجتمع. وتطوير العمل التطوعي بالحرص على المتطوعين من كل ألوان الطيف السياسي والمستقلين من أجل تعزيز روابط المجتمع وتجاوز الانقسام والفئوية لصالح التنافس البناء في دعم صمود المواطنين في مواجهة فيروس كورونا وفيروس الاستيطان والاحتلال.
انتقل مركز الاهتمام والتقدير والاحترام على صعيد عالمي إلى أصحاب المعاطف البيضاء من أطباء وممرضين وممرضات، البعض أطلق عليهم اسم الجيش الأبيض. ينطبق هذا الانتقال على الجهاز الطبي الفلسطيني وعلى العاملين والعاملات في الطب والتمريض في مناطق 48. لقد هتف الفرنسيون وهم يترنحون في محنتهم مع كورونا. نحن هنا في الشبابيك والشرفات نصفق للمسعفين لا للحكومة/ متضامنون مائة في المائة مع من هم تحت/ محجورون وثوريون .. لا ننسى/ لقد خصخصوا كل شيء وباعوه لأصحاب المال/ لن يسير الأمر بعد الآن على هذا النحو لأننا هنا/ المستشفيات مليئة والصحة منهارة.
قد يختلف الوضع الفلسطيني، فالحكومة ورئيسها د. محمد إشتية ووزيرة الصحة د. مي كيلة والناطق الإعلامي إبراهيم ملحم والأمن الوطني الساهر على خدمة المواطنين وكل المتطوعين والمتطوعات يستحقون التقدير والثناء.
قد يهمك أيضا :
لماذا ترجح كفة كبح التحرر على كفة دعمه؟
عودة التطوع والتعاون المجتمعي