دخلنا في سباق محموم مع جولة ثانية ضد فيروس كورونا، في الجولة الأولى رجحت كفتنا على كفة الفيروس، وفي الجولة الثانية الحالية التي بدأت منذ ثلاثة أسابيع تبدو الغلبة حتى الآن للفيروس، ولكن في معركة الكر والفر فإن النتيجة لم تُحسم بعد، وهذا يُعطينا فرصة للملمة الصفوف ومعاودة الهجوم على الفيروس بغية الصمود أولاً والفوز ثانياً.
الموجة الثانية لـ»كورونا» انطلقت على صعيد عالمي ووصل حصادها اليومي 212.326 إصابة في يوم 4 تموز، بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية، وشهدت المناطق التي تتأثر بها فلسطين انتشاراً ملحوظاً، فقد بلغ عدد الإصابات في دولة الاحتلال الإسرائيلي 719 إصابة خلال 24 ساعة، ما دفع جهات الاختصاص الإسرائيلية إلى التحذير من انهيار قدرة المستشفيات على الاستيعاب، ومصر بدورها تسجل ارتفاعاً وانتشاراً كبيراً.
أيضاً التطور الخطير في فلسطين أن الفيروس استوطن وبدأ ينطلق من بؤر محلية، بمعنى أدق أصبحت فلسطين منتجة للفيروس والدليل على ذلك أن نسبة 82% من الإصابات جاءت عبر الأعراس وأشكال أخرى من التقارب والتفاعل الاجتماعي، مقابل 18% من الإصابات كان مصدرها العاملين داخل دولة الاحتلال. تطور خطير حقاً، أن نتحول إلى منتجين للفيروس، وما يعنيه ذلك من احتمال أن ينتشر الفيروس بأضعاف مضاعفة ويخرج عن إطار السيطرة بعد أن ينال من قدرة المستشفيات والجهاز الصحي على السيطرة.
مع الأخذ بالاعتبار أن قدرة الجهاز الصحي محدودة، وقدرة الاقتصاد الفلسطيني أقل من محدودة؛ في ظل تراجع دعم المانحين، خاصة بعض الدول العربية التي أصبح لها أجندة سياسية متناغمة مع أجندة «صفقة القرن» وأصحابها. في ظل ذلك لا نملك أكثر من سلاح الوقاية كسلاح فعال في مواجهة «كورونا».
غير أن فلسطين تواجه الآن ثلاثة مخاطر من الوزن الثقيل. خطر ترسيم الضم أو تثبيته كأمر واقع يؤبد الاحتلال والسيطرة على الشعب ومقدراته. خطر جائحة «كورونا» الحليف الأكبر للاحتلال، خاصة إذا ما خرج عن السيطرة فإنه سيضعف مقاومة الشعب للاحتلال وتثبيته وترسيمه. الخطر الثالث هو (الفساد الإداري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي الداخلي) الذي يضعف ويكبح مقاومة الشعب للخطرين السالفين.
الأخطار الثلاثة مترابطة ويدعم بعضها البعض الآخر، ولكن في كل لحظة هناك واحد من الأخطار يكون أشد ضرراً وسلبية وذلك حين يبادر إلى الهجوم ويستبيح طاقاتنا، وبوجود خطر داهم من المفترض تركيز الجهود ضده. ولا شك في أن مقاومة الشعب تضطرب وتضعف أو تفقد الاتجاه حين تقع في سوء تقدير الخطورة لكل واحد من المخاطر.
الآن يتعرض الشعب إلى موجة هجوم «كورونا»، مهددة مناعته وقدرته على مقاومة الاحتلال والاستيطان وسرقة الموارد وتقرير مصيرنا على يد المحتلين والمستوطنين والترامبيين الدوليين والعرب، وتهدد قدرته على التعافي من الفساد وإعادة البناء الداخلي والمؤسسي على أسس ديمقراطية. «كورونا» الآن هو الأشد خطراً وعلينا أن نركز الجهود ضده كي لا «يبطحنا» وينال منا. إذا سلمنا بحسبة موضوعية أن «كورونا» أشد خطراً الآن، علينا أن نحدد قواعد انطلاق الهجوم الجديد من أجل مواجهته وهزمه:
أولاً: يعتمد «كورونا» في هجومه على المجتمع على ثقافة إنكار وجود فيروس «كورونا» لدى فئة كبيرة من الناس من منطلقات كالقول: إن الفيروس لا يصيب المسلمين، أو القول: إن افتعال وجود فيروس هو مؤامرة للتغطية على الضم، أو لقمع المعارضين الناقدين للفساد، أو للحفاظ على الامتيازات والمصالح... إلى آخر المعزوفة التي يقف في بدايتها ونهايتها معارضة ما تقوله السلطة بصرف النظر عما إذا كان القول خاطئاً أو مصيباً والوقوع في مرض سلطة فوبيا الشبيه بمرض إسلاموفوبيا.
من المفترض هزم هذه الثقافة التي لم تهزم في الجولة الأولى، وأدت إلى الخروج الفوضوي من إجراءات الوقاية الناجعة السابقة والدخول المرتجل في علاقات ضربت عرض الحائط أمان المواطنين. ما لم تهزم هذه الثقافة التي تشكل أهم حليف للفيروس، فإن الفشل سيكون حليف كل مسعى للتغلب عليه. وكي تسود ثقافة الاعتراف بالخطر والعمل على محاصرته والتغلب عليه، من المفترض تنظيم حملات إعلامية موسعة، عبر كل وسائل الإعلام وعبر الخطاب الديني والسياسي. وهذا يقتضي مساءلة المحرضين المدافعين عن ثقافة الإنكار.
فكما أن قواعد وأخلاقيات مهنة الإعلام والثقافة لا تسمح بالدفاع عن الاحتلال والعنصرية والفاشية والقمع والاستبداد، والقتل خارج القانون والفساد داخلياً، فإن تلك القواعد من المفترض ألا تسمح بنشر ثقافة تساهم في نشر وباء قاتل ومدمر. بعد كل هذا لا تستطيع تلك الادعاءات أن تصمد أمام أي محاكمة عقلانية تحترم العقل، فلا مناص من هزيمة ثقافة إنكار «كورونا» قبل كل شيء.
ثانياً: عندما لا يقتنع الناس حباً وطواعية بالإجراءات الوقائية، لا بد من تدخل السلطة وأجهزتها الأمنية والتنظيمات ومؤسسات المجتمع المدني لوقف خطر انتشار «كورونا» داخل المجتمع، كإلزام المخالفين بالتباعد والتعقيم ووضع الكمامات والحجر المنزلي وداخل المراكز الصحية والمستشفيات. وهنا تتصدر سلطات الاحتلال الإسرائيلي دور العائق والمعرقل لإجراءات الوقاية، خاصة عندما تشجع على عدم التزام المواطنين بالإجراءات، كاستخدام صالات الأفراح، وممارسة كل طقوس التفاعل والتواصل الاجتماعي.
هنا تقدم سلطات الاحتلال نفسها كراع ومشجع لانتشار «كورونا» داخل المجتمع الفلسطيني، ولا يوجد تفسير آخر غير ذلك؛ ففي الوقت الذي أوقفت فيه السلطة الأعراس وأغلقت الصالات وبيوت العزاء، لجأ المواطنون إلى الصالات في مناطق (ب وج) التي لا تستطيع السلطة دخولها إلا بتنسيق مع سلطات الاحتلال. وكانت هذه الأفعال التي يرعاها ويشجعها الاحتلال سبباً في مضاعفة الإصابة بالفيروس وفي جلب الموت للمصابين، وسيكون الآتي أعظم في حالة استمرار هذه المعادلة.
إزاء ذلك يكون الحل بمد صلاحيات ضبط إجراءات الوقاية والسلامة إلى تلك المناطق المخالفة، متجاوزة بذلك شروط اتفاق أوسلو البائسة لجهة صلاحيات السلطة في مناطق (ب وج)، وذلك انطلاقاً من أن سلامة المواطنين أولوية، وانسجاماً مع قرار وقف العمل بالاتفاقات التي لم تترك دولة الاحتلال فيها بنداً إلا وانتهكته شر انتهاك. هناك من يقول: إن هذا الموقف من شأنه التصادم بين الأمن والشرطة الفلسطينية وقوات الاحتلال.
قد يكون ذلك متوقعاً، فتستطيع قوات الاحتلال منع الأمن الفلسطيني بالقوة، وحينذاك تقدم هذه السلطات المحتلة نفسها كطرف حام ومروج للفيروس في صفوف شعب يعيش تحت الاحتلال، وكطرف متقاعس عن القيام بدوره كسلطة احتلال في الحفاظ على صحة المواطنين بحسب القانون الدولي، اتفاقية جنيف الرابعة وملحقاتها، ولأنها تمنع سلطة مسؤولة عن شعبها بالعمل على حمايته من هذا الوباء القاتل. السلطة مطالبة بالمبادرة وسيكون العالم معها ومع شعبها، وسيكون العالم ضد سلطة الاحتلال التي تستغل جائحة «كورونا» لترسيم الضم وقبل ذلك لإضعاف الشعب الفلسطيني والحاق الأذى به، لا مناص من مبادرة الدخول لإنقاذ مواطنينا في تلك المناطق، مبادرة شجاعة تعزز من رفض ترسيم الاحتلال بالضم، وتعزز من مقاومة وهزيمة فضيحة القرن.