منذ الإعلان عن صفقة ترامب نتنياهو تتعاقب ردود الفعل الرسمية والشعبية. يلاحظ أن الموقف العربي الرسمي يتبنى الموقف الفلسطيني الرافض للصفقة، هذا ما عبر عنه بيان وزراء الخارجية العرب، وبيان الاتحاد البرلماني العربي ومشروع القرار الفلسطيني الذي قدمته تونس واندونيسيا الى مجلس الأمن، وقبل ذلك صدر قرار قمة الظهران
التي سُميت قمة القدس، رداً على قرار ضمها الى إسرائيل. لكن رفض الصفقة لا ينسجم مع مشاركة 6 دول عربية في مؤتمر المنامة الذي اعلن عن الشق الاقتصادي من الصفقة، في الوقت الذي امتنعت فيه 12 دولة عربية عن تحديد موقف، واقتصر الرفض على فلسطين ولبنان والعراق فقط. ولا ينسجم رفض الصفقة مع مشاركة الإمارات
وعُمان والبحرين في حفل الإعلان عن الصفقة في البيت الأبيض بحضور نتنياهو. الحل الذي يقدمه ترامب للصراع الفلسطيني الإسرائيلي من وجهة نظر إسرائيلية متطرفة وعدمية، وضع الموقف العربي الرسمي أمام تناقض بين المعلن وغير المعلن، بين الأقوال والأفعال. فقبل أن يجف حبر بيان وزراء الخارجية عقد الجنرال عبد الفتاح البرهان
لقاء مع نتنياهو في أديس أبابا أسفر عن تعاون إسرائيلي سوداني في اكثر من مجال وقبول الاعتراف المتبادل. وهناك حديث عن لقاءات اخرى مع زعماء عرب. تصريحات ترامب وفريق التفاوض الأميركي تدعي أن ترامب لم يكن ليعلن عن الصفقة لولا حصوله على موافقة أطراف عربية. بيانات وزارات الخارجية في عدة دول عربية وبعض
المواقف الصادرة عن إعلاميين رسميين عرب قبلت المشروع الأميركي (الصفقة ) باعتباره قابلاً للتطور، مع ان المشروع غير قابل للتطور بعد حسم قضايا القدس واللاجئين وضم المستوطنات والأغوار وفرض السيادة الإسرائيلية من وجهة نظر معسكر المستوطنين المتطرف. لا مكان لهذا المشروع إلا في سلة النفايات كما قال رئيس مجلس الأمة
الكويتي مرزوق الغانم وأقرن قوله بإلقاء مشروع الصفقة في سلة النفايات فعلاً. لا يستقيم تأييد الموقف الفلسطيني الرافض للصفقة، مع كل حديث عن تطوير الصفقة، إلا إذا أَضْمَرَ البعض رهاناً على إمكانية تطويع الموقف الفلسطيني بالترغيب والضغوط. يجوز القول وبالاستناد للعلاقات العربية الأميركية والعربية الإسرائيلية والمواقف العملية من
الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أن سقف الموقف العربي هو التعايش مع الصفقة والتعايش مع الموقف الفلسطيني في الوقت نفسه. أقل ما يقال في هذا الموقف إنه لا يساعد في إفشال الصفقة او تراجع أصحابها عنها. على سبيل المثال ساعد الموقف العربي في استصدار قرار من الجمعية العامة ضد القرار الأميركي بضم القدس ونقل السفارة اليها،
لكن الضم استمر. كذلك سيصدر قرار جديد من الجمعية العامة ضد الصفقة، ولكن هل تمنع القرارات الدولية والعربية ضم المستعمرات ومنطقة الأغوار لإسرائيل بعد شطب قضايا القدس واللاجئين. فطالما لا تدفع إدارة ترامب ودولة الاحتلال ثمناً للضم والشطب والتهويد وانتهاك حقوق الشعب الفلسطيني بالطول والعرض فلن تتراجعا. وطالما ان
سلاح الضغط العربي على المصالح الأميركية الإسرائيلية بقي في غمده منذ اتفاقات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية ولا يزال. واذا توخينا الدقة والموضوعية سنجد نوعاً من تبادل المصالح المبرر بخطر مشترك، وهو عكس الضغط على المصالح، ما يجعل الرهان على الموقف الرسمي العربي ليس بمستوى إسقاط الصفقة او غير قادر على الفعل
في المرحلة الحالية. ومع ذلك فالموقف العربي النظري المؤيد للموقف الفلسطيني مفيد في المعركة السياسية، ويمكن الإفادة منه في بناء مواقف من نوع آخر. ليس من الخطأ القول إن إفشال الصفقة وقطع الطريق على خطر تطبيقها لا يتحقق بقرارات حتى لو صدرت عن مجلس الامن، في زمن تحلل إدارة ترامب من القانون الدولي والاتفاقات
والمعاهدات والقرارات الدولية، وفي زمن حمى مراكمة الأموال واصطياد المصالح وإخضاع الضعفاء. القرارات مهمة، لكنها لا تكفي إلا في حالة ايجاد مقومات لتطبيقها، وهذا هو التحدي الذي يواجهنا. الاستراتيجية الفلسطينية الرسمية نجحت في الحصول على مواقف التأييد والدعم العربي والإسلامي والدولي للموقف الفلسطيني الرافض
للصفقة. ولكن ماذا بعد؟ هذا يدعو للبحث في الموقف الشعبي في الحلقات الفلسطينية والعربية والدولية الذي يستطيع التغيير في قواعد اللعبة السياسية التي فرضها ترامب ونتنياهو. وعند الحديث عن حراك شعبي، فهذا لا يأتي بقرار وغير قابل للاستخدام المؤقت، وبخاصة في غياب الثقة. الموقف الشعبي العربي كما تشير الحراكات الاولية ضد
الصفقة، في الأردن ولبنان والمغرب والجزائر والسودان وتونس والكويت وغيرها من البلدان، لا يثق ولا يؤيد مواقف الدول العربية. لكن الحراكات تستطيع التأثير على المواقف الرسمية في كل بلد، ويتناسب التأثير مع زخم الحراك او ضعفه. وكانت الانتفاضات العربية قد أثبتت انه لا يمكن خلط الموقف الشعبي بالرسمي، مع الأخذ بالاعتبار
ان الثورة المضادة سرقت الحراك الشعبي وقضت عليه بالاشتراك مع النظام والتدخلات الخارجية. لقد كانت الانتفاضات والأنظمة على طرفي نقيض بسبب اختلاف المصالح والمواقع. الحركة السياسية في فلسطين أضاعت البوصلة في تعاملها مع الانتفاضات الشعبية عندما انحازت في معظمها للأنظمة المستبدة، وأهدرت فرصة بناء علاقة مع
الاحتياطي الاستراتيجي الشعبي الذي بدونه لا يمكن ان تتحقق أهداف الشعب الفلسطيني الوطنية. ثمة مصالح مشتركة بين الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. المشترك هو النضال ضد علاقات التبعية الاقتصادية والسياسية وضد الاحتلال الاسرائيلي الذي يجسد ويحرس التبعية والاستبداد. والمشترك أيضا هو الظفر بالديمقراطية وتغيير شكل الحكم
من ديكتاتوري مستبد الى ديمقراطي على اقل تقدير. لا يمكن تجاوز هذا الخلل البنيوي الا بالنضال السلمي والديمقراطي المتواصل. يلاحظ ان النظام الفلسطيني استنجد بالأنظمة العربية في تحركه ضد الصفقة، في الوقت الذي لم تستنجد فيه الاتحادات الشعبية والمهنية والمنظمات النسوية والنقابات التابعة للنظام الفلسطيني المكون من (المنظمة
والسلطة والمعارضة) بمثيلاتها على صعيد عربي ودولي. السبب يعود الى عدم الاعتماد على الشعوب في التصدي للصفقة. السؤال الذي يفرض نفسه في معمعان معارضة الصفقة بمشاركة شعوب عربية، هل يمكن إعادة بناء نضال شعبي مستقل عن السلطات بما في ذلك سلطة التنظيمات، نضال يفتح على كل حراك عربي او انتفاضة شعبية
عربية في سياق النضال المشترك ضد علاقات التبعية وضد الصفقة التي تجسد علاقات التبعية؟
قد يهمك ايضا :
مغزى الحرب على «سيداو»
هل من بدائل للصفقة ومسارها؟