في صراع الحياة مع الموت يستمر العالم تحت اختبار "كورونا"، كل شيء مطروح للتقييم على مرأى ومسمع العالم، الملوك والرؤساء والأمراء والجنرالات، أصحاب المال والثروات والشركات والبنوك، الحكومات والشرطة والأمن، الجهاز الطبي، التعليم، والإعلام، والأحزاب والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، الشباب والشابات، والثقافة السائدة، ومنظومة القوانين، والضمان الاجتماعي وبخاصة حال المسنين ومراكزهم، يضاف إلى ذلك في الواقع الفلسطيني، اختبار سلطات الاحتلال والاستيطان والسجون، تلك السلطات التي لم تفوت فرصة لتغيير أو تخفيف غطرستها إلا وأضاعتها بخفة وبساطة.
من بين الذين يتعرضون للاختبار، العلاقة بين قطبي النوع الاجتماعي، بعد أن حشرهم فيروس كورونا مع أولادهم في مكان واحد ولمدى زمني طويل نسبيا، بعيداً عن البنيات التحتية كالمدارس والجامعات والمصانع الصغيرة والمتوسطة والمتاحف ودور السينما والمسارح والمقاهي والمطاعم والسياحة والسفر.
ما هو حال العلاقات الاجتماعية والزوجية في الحجر المنزلي؟ هل يسود السلام أم الاضطراب ؟ وهل تغير تقسيم العمل الداخلي مع توقف العمل الخارجي. وإذا كان من الصعب الإحاطة بكل هذه العناصر وبخاصة العلاقات الاجتماعية التي لا تحتل حيزاً يُذكر في الخطاب الإعلامي والثقافي وفي الحوار عبر وسائط التواصل الاجتماعي وشبكات الانترنت. ولكن، ثمة مؤشرات وأدوات قياس يمكن استخدامها في النقاش المطروح.
أصدر انطونيو غوتيرس الأمين العام للأمم المتحدة نداءً لحماية النساء والفتيات في المنازل، بعد تفاقم العنف المنزلي والأسري خلال فترة الحجر الصحي قال فيه: أوجه نداءً جديداً اليوم من أجل (السلام في المنازل) في جميع أنحاء العالم، فمع تزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية شهدنا طفرة عالمية مروعة في العنف المنزلي، إنني أطالب جميع الحكومات بجعل منع العنف ضد المرأة وجبر الضرر الواقع جراء هذا العنف جزءا رئيسا من خططها الوطنية للتصدي لـ "كوفيد - 19".
هذا النداء الذي يتحدث عن "طفرة عالمية مروعة من العنف الموجه ضد النساء والأطفال"، استند لتقارير أولية صدرت عن منظمة الصحة العالمية ومنظمات حقوقية، تقول: قبل جائحة كورونا تعرضت امرأة أو فتاة من بين كل 3 للعنف الجسدي أو الجنسي. أما اليوم فقد تضاعف معدل العنف ضد النساء مقارنة بالفترة نفسها من العام 2019 الماضي. مثلا في ألمانيا تصاب امرأة واحدة بجروح كل ساعة. وكل ساعة تتصل امرأة بريطانية تشتكي من عنف، حيث ارتفع العنف المنزلي بنسبة 30% خلال الحجر. وارتفع العنف المنزلي في فرنسا بنسبة 36% خلال الحجر.
النسبة في إيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة شهدت أيضا ارتفاعا في وتيرة العنف، فقد سجلت 700 استغاثة من نساء أميركيات خلال أربعة أيام بمعدل 175 استغاثة في اليوم. أما في الصين فقد ارتفعت نسبة العنف المنزلي في مناطق الحجر الصحي بنسبة 300%. وفي الدول العربية وفي غياب المعلومات فمن المتوقع أن يكون حال النساء أكثر سوءا. ففي لبنان ارتفع عدد المكالمات في الخط الساخن المخصص للإبلاغ عن حالات عنف ضد النساء في شهر آذار 50% مقارنة مع الأشهر السابقة.
وفي تونس تضاعف العنف الموجه للنساء خمس مرات مقارنة بفترة ما قبل الحجر. وتحدث مركز "سوا" عن زيادة الإبلاغ عن عنف في فلسطين بنسبة 20%. يلاحظ أن فرص الإبلاغ وتقديم شكاوى أصبحت غير متيسرة كما كانت في السابق، ما دفع منظمات نسوية وحقوقية فرنسية لوضع أرقام تقديم شكاوى ضد العنف في الصيدليات والسوبرماركت.
وبالطبع فإن الفرص تقل أكثر بكثير للنساء في فلسطين والبلدان العربية والمتأخرة. حقيقة الأمر يعتقد كثيرون أن "المخفي أعظم" فنسبة العنف أكثر بكثير من المعلن وهذا سر حديث غوتيرس عن (طفرة عالمية مروعة). فقد أشار مركز "سوا" إلى زيادة عدد مقدمات الشكاوى بنسبة 20% مقارنة مع ما قبل الحجز الصحي. وقدمت جمعية المرأة العاملة للتنمية في أقل من أسبوعين 206 استشارات عبر الهاتف لحالات متعلقة بالعنف المبني على النوع الاجتماعي، فيما تابعت الجمعية تقديم 71 جلسة فردية مرتبطة بالعنف كما قالت آمال خريشة في مقابلة على الصفحة الالكترونية لاتحاد لجان العمل النسائي.
من يدقق في الخطاب الإعلامي بما في ذلك المتاح بوفرة في وسائل التواصل الاجتماعي لن يجد اهتماماً بمستوى القضايا الاجتماعية الخانقة وبخاصة العنف ضد النساء والأطفال. يعود ذلك إلى تقدير مفاده، أن الوقت غير مناسب لإثارة مشاكل من هذا النوع، وأغلب الاعتقاد بأن النسبة الأكبر من النساء المعنفات لا يقدمن شكاوى حتى في الأوقات العادية، فما حسب عند وجود المعنف على مدار الساعة أو معظم الوقت في جوارهن.
لقد كشف الإغلاق الذي تسبب فيه فيروس كورونا ضعف النضال الاجتماعي سواء على صعيد مراكمة وعي اجتماعي تحرري أو على صعيد تطوير بنية الأجسام النسوية، وعلاقتها بالقاعدة العريضة من النساء.
كما أن الافتقاد لقاعدة معلومات حول أدوار النساء المنخرطات في أعمال مهمة كالصحة والتعليم والإعلام والعمل التطوعي، والافتقاد لمعلومات حول اتساع ظاهرة العنف أثناء الإغلاق والحجر بالتعاون مع المنظمات الحقوقية ومراكز استطلاع الرأي، وافتقاد المعلومات حول مشكلات التباعد والتقارب الاجتماعي في المنازل. وأثر البطالة وتردي الأحوال المعيشية في مفاقمة المشكلات.
كل هذا يطرح سؤالا، لماذا لم يتشكل جهاز طوارئ نسوي يضم نساء فاعلات من مختلف المنظمات ومن أوساط الأكاديميات والطالبات وأوساط أدبية وفنية واجتماعية، يتوقف عند الأسئلة التي يطرحها المجتمع وقت الأزمة، ويتصدى للمهمات الصغيرة والكبيرة. عندما نتحدث عن التغيير والتقدم، فإن الوقت الذي يتقرر فيه التغيير وتتحدد آفاقه وطبيعته، هو وقت الأزمات التي تطرح إمكانية الاستقطاب من جديد.
ولحسن الحظ، فإن المجتمع الفلسطيني يتعامل بإيجابية أثناء الأزمات، وهو مؤهل للتجاوب مع المبادرات التي تحترم مصالحه وتحاول إيجاد الحلول للمشكلات المتلاحقة الناجمة عن الحجر والإغلاق والمرض، والحصار الإسرائيلي. في مواجهة مرض "كورونا" برز دور نساء كن بمستوى الأزمة العميقة والتحديات الكبرى على صعيد بلدانهن.
برزت انغيلا ميركل المستشارة الألمانية، التي نجحت وحكومتها في محاصرة "كورونا" وتخفيض الوفيات والإصابات. ونجحت رئيسىة الحكومة النيوزيلندية "جاسيندا ارديرن" في وضع استراتيجية كان الإنسان جوهرها ونفذتها بشكل صارم، وقد تغلبت مع شعبها على "كورونا" إلى حد كبير. وفي التجربة الفلسطينية صعدت في المشهد الوظيفي والمهني وزيرة الصحة د. مي كيلة التي تعاملت بإخلاص ومسؤولية ودأب، وتركت بصمات إيجابية على الجهاز الصحي في الخندق الأمامي.
وبرز دور محافظة رام الله والبيرة ليلى غنام التي تواجدت في كل الخنادق مبدية شجاعة ومسؤولية وإخلاصا ومقدمة نموذجا للمرأة التي تقف على قدم المساواة في الكفاءة والأداء.
وفي الواقع هناك نساء فلسطينيات مجهولات كن بمستوى التحديات ومن الضروري التعرف إليهن.
قد يهمك أيضا :
لماذا ترجح كفة كبح التحرر على كفة دعمه؟
جائحة «كورونا» تختبر الدول والشعوب