الحل العدمي للقضية الفلسطينية الذي قدمته صفقة ترامب نتنياهو غير قابل للتفاوض أو التطوير، غير قابل للحياة لأنه يعبر عن أطماع كولونيالية جشعة في مواجهة الحقوق الطبيعية المشروعة للشعب الأصلاني. ولن تقوم لذلك الحل قائمة إلا بفرض معادلة «أسياد وعبيد» في زمن ما بعد عبودي. رغم ذلك تسود حالة ابتزاز دولية وإقليمية عنوانها دعوة فلسطين للتفاوض والمطالبة بشروط وتقديم
رؤيتها للحل. متغافلين عن حقيقة أن الرؤية الفلسطينية المعتدلة المستندة للقانون والشرعية الدوليين هي طرف نقيض للصفقة ولا يمكن التعايش أو التفاهم وجسر الهوة السحيقة بينهما. الابتزاز هو جزء من الصفقة كما كان جزءا من المحاولات السابقة، حيث ألصقت بالفلسطينيين تهمة إضاعة فرص إيجاد حل سياسي لقضيتهم. تهمة صدرت باستمرار على لسان المستعمرين المحتلين عندما كان
الشعب الفلسطيني يرفض المشاريع الاستعمارية ويرفض الاستسلام للضغوط والعقوبات. قالوا إن القيادة الفلسطينية رفضت قرار التقسيم عام 47، وعزي للرفض الفلسطيني ضم الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية إلى إسرائيل. وبالعودة للقانون الدولي جسد هذا الضم أطماع الهيمنة الاستعمارية دون أي دفاع عن القرار والقانون الدولي. فالحقوق لا تسقط بهذه السرعة الجنونية، والتفاوض والبحث
عن حل للصراع لا ينتهي العمل به في تاريخ محدد، بل يكون مفتوحاً لمديات زمنية أخرى. فقد تبين بحسب الأرشيف الإسرائيلي أن الزعامة العربية قبلت بدولة فلسطينية وعودة اللاجئين تطبيقاً للقرارات الدولية، لكن بن غوريون والقيادة الإسرائيلية رفضوا العرض، حدث ذلك في العام 49 عشية مفاوضات الهدنة. في مفاوضات كامب ديفيد 2000 قدم بل كلينتون وإيهود باراك صيغة حل لم
تكن مقنعة للرئيس ياسر عرفات. كانوا يطالبونه بقبول كل عناصر الحل أو رفضه في غضون أيام. وعندما لم يوقع على حزمة الحل حمّلوه المسؤولية وأسقطوا عنه الشراكة. وعندما استجابت القيادة الفلسطينية للتفاوض في طابا المصرية بعد فترة وجيزة من الفشل في كامب ديفيد. وبينما كانت المفاوضات تحرز تقدما بحسب الوفد الفلسطيني، قطع الإسرائيليون المفاوضات وسحبوا وفدهم وعادوا
لتهمة إهدار فرصة جديدة. الشيء نفسه تكرر مع مفاوضات الرئيس أبو مازن مع أولمرت، حين توقفت المفاوضات بسبب تهمة فساد أولمرت، لكنهم حمّلوا الفشل للرئيس الفلسطيني.
ويتكرر إلصاق تهمة إضاعة الفرص في صفقة ترامب التي تتبنى موقف نتنياهو بنسبة 95% - 98%. الابتزاز وإلصاق التهمة يأتي في كل مرة لتبرير فرض الحلول المستندة لسياسة صناعة الوقائع
على الأرض. فدولة الاحتلال درجت على تجسيد الحل على الأرض أولاً ومن ثم تبحث عن ترسيم سياسي أولا باستدراج فلسطين لتشكل غطاء للحل وهو النموذج الأفضل، أو لتطبيق الحل من طرف واحد وتحميل فلسطين مسؤولية خسارتهم لكل شيء. هكذا تقدم إسرائيل نموذجاً لغطرسة القوة الاستعمارية القائمة على صناعة الوقائع والترسيم والابتزاز وقد حان الوقت لوضع حد لسياسة استفراد
الجلاد بالضحية وما يترتب عليه في كل مرة من اغتصاب حقوق الضحية وشيطنتها في آن. حان الوقت لوقف المشاركة في ابتزاز فلسطين ودفعها نحو حقول الألغام الإسرائيلية، نحو مفاوضات صفقة ترامب المحبوكة على مقاس الأطماع الإسرائيلية ولا تملك أي مقوم من مقومات الحل الذي يقبل به الشعب الفلسطيني. وفي الجهة الفلسطينية لا بد من وقفة حول صحة رهان القيادة الفلسطينية على حل
سياسي بالاعتماد على مفاوضات ثنائية بإشراف أميركي. الرهان يذكرنا بمقولة السادات «أن أميركا تملك 99% من مفاتيح الحل في الشرق الأوسط». صحيح أن أميركا هي شرطي العالم المهيمن منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وما زالت مهيمنة وبخاصة في العديد من الدول العربية رغم تحسن مواقع روسيا في بعض قضايا الصراع، ومنافسة الصين على صعيد اقتصادي.
لكن الهيمنة العالمية الأميركية لا توجب بالضرورة قبول وساطتها وبخاصة أن علاقتها بإسرائيل عضوية واستراتيجية. وتقود إلى الانحياز الكامل والمطلق لإسرائيل. ومن يستعرض مسار المفاوضات بالإشراف الإميركي سيتوصل إلى نتيجة قاطعة الدلالة بأن الموقف الأميركي يتطابق مع الموقف الإسرائيلي في المضمون وقد يختلف في مرات قليلة في التكتيك لضمان الدعم العربي. أما
في عهد ترامب فقد أصبح التطابق الأميركي الإسرائيلي في الشكل والمضمون والتفاصيل والمصطلحات وكل شيء، وهذا يجعل الاستجابة الأميركية للمصالح الفلسطينية في عداد المستحيل، ويجعل محاولات إيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي على صعيد كوني مسألة معقدة. قبل ترامب همشت الإدارات الأميركية، الرباعية الدولية وتراجعت عن مشروع «خارطة الطريق» ورفضت
تقرير غولدستون حول جرائم الحرب واستخدمت الفيتو وعطلت تطبيق قرار المحكمة الدولية حول جدار الفصل العنصري ودعمت القرار الإسرائيلي بحصار عرفات، وانسحبت من منظمة اليونسكو بعد انضمام فلسطين لها. وفي عهد ترامب اتخذت إدارته موقفاً عدائياً رافضاً للقانون الدولي والمعاهدات والاتفاقات، مستبدلاً الشرعية الدولية بشريعة الغاب وغطرسة القوة ومقدماً صفقته كنموذج
للحل من طرف واحد. وإذا كانت العودة إلى المفاوضات بوساطة إدارة ترامب مصيرها الفشل المؤكد، فهل سيتمخض الذهاب للمفاوضات بإشراف الرباعية الدولية عن أي إنجازات وحلول يقبل بها الشعب الفلسطيني؟ الجواب، كان وضع الرباعية الدولية في عهد أوباما وكلينتون وبوش الابن أوفر حظاً وبما لا يقاس من عهد ترامب الراهن، ورغم ذلك، لم تسجل المفاوضات حينها أي تقدم كانت
الرباعية في ذلك الوقت لا تملك آلية للعمل ولا صلاحيات وقد استخدمت غطاءً للموقف الأميركي المعطل للحل. في عهد ترامب تغير الوضع الدولي للأسوأ، ديدن ترامب المال والمزيد من المال الذي لا يحيد عنه. الدفع والمزيد من الدفع هو الناظم لمواقفه ولسياساته في كل علاقاته الداخلية والخارجية ما عدا علاقته بإسرائيل التي تستند للمصالح المشتركة العميقة. هل سيغير ترامب مواقفه من داخل
مؤتمر دولي، وقبل ذلك هل يقبل بنزع احتكاره للعملية السياسية والمشاركة مع آخرين؟ وهل تقبل دولة الاحتلال بالمشاركة في المؤتمر الدولي. تقول تجربة ما قبل ترامب إن إسرائيل رفضت المبادرة الفرنسية وهي أقل من مؤتمر دولي وقاطعتها، وكذلك كان الموقف الأميركي. في عصر الاستعمار القديم والجديد كانت القوة والمصالح، لا المبادئ وحقوق الشعوب وحقوق الإنسان هي المحرك لحل
الصراعات. في عهد ترامب الموغل في التوحش لا أحد يأتي على ذكر المبادئ والقيم والأخلاق حتى كشعارات. فقط المصالح هي المحرك ولما كانت فلسطين لا تملك شيئاً لتلبية المصالح، ولم تعد الدول العربية التي تملك مصالح حيوية للأميركيين تستخدم تلك المصالح في الضغط من أجل حل للقضية الفلسطينية. في ظل المعادلات القائمة فإن مكان فلسطين في الحل هو المكان الذي حددته صفقة ترامب. بناء على ما تقدم فإن التجربة المريرة تستدعي البحث في أشكال انتقال الشعب الفلسطيني إلى مسار آخر. ذلك هو التحدي الكبير.
قد يهمك أيضا :
مغزى الحرب على «سيداو»
أولوية إعادة بناء الإنسان الفلسطيني