تمر الذكرى 53 على الهزيمة الحزيرانية التي لحقت بالأنظمة الوطنية العربية وبالشعوب العربية كتحصيل حاصل.
أطلق محمد حسنين هيكل منظر مصر الناصرية مصطلح "نكسة" على تلك الهزيمة في محاولة لتخفيف وقعها على الشعوب ولتهميش مسؤولية الأنظمة عن حدوثها.
لذا ساد مصطلح "نكسة" في الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي، وإمعانا في تخفيف وقع الهزيمة رفع النظام الناصري شعار "إزالة آثار العدوان"، الذي اعتمد في القمم العربية بعد اختلال ميزان القوى فيها لمصلحة الدول العربية المرتبطة بعلاقات تبعية، مسدلة بذلك الستارة عن مسرح النزاع بين دول وطنية ودول تابعة لمصلحة الأخيرة.
جورج طرابيشي من موقع المستوى الثقافي أطلق أسماء مختلفة على حرب 67 بدلاً من نكسة، وعزا عصابية الخطاب العربي للهزيمة مقدما قراءة سيكولوجية غير مسبوقة، ومطلقا عليها مصطلح "رضة حزيران".
لم يكن العرب أنظمة وشعوبا يتوقعون الهزيمة، كانوا يُمنون النفس بالانتصار، فذاقوا مرارة هزيمة منكرة، بأبعادها السياسية والاقتصادية، غير أن طرابيشي أعطى اهتماما ملحوظا للبعد النفسي بعد حلول الهزيمة المفاجئة والصاعقة، وارتبط مصطلح "رضة" بالتشخيص الذي أعطى هذا البعد السيكولوجي اهتماما غير مسبوق في الثقافة العربية، بعد هذا النوع من الهزيمة التي كانت أكثر إذلالاً للذات العربية مقارنة بهزائم 48، و56، فقد كانت هزيمة حزيران "هزيمة شاملة، معمّمة" مطردة ومتعمّقة، أمام المشروع الاستعماري الصهيوني الأميركي الغربي.
وانعكس ذلك بأشكال من العصاب، بحسب طرابيشي. النتيجة التي توصل إليها، أن هزيمة أو "رضة" حزيران دشنت مرحلة جديدة عنوانها التبعية والتخلف والعصاب.
صادق جلال العظم كان من المبادرين إلى نقد فكر الهزيمة عبر كتابه الشهير (النقد الذاتي بعد الهزيمة).
فبدلاً من النقد وتحديد الأسباب الداخلية التي أدت إلى الهزيمة، شرعت الأنظمة في تبرير الهزيمة، وبدأت تبحث عن الأسباب الخارجية فقط وفي مقدمتها الدعم الهائل الذي قدمه الغرب لإسرائيل والذي يرقى إلى مستوى المشاركة في الحرب.
الأخطر من ذلك أن الأنظمة المهزومة أوغلت في تثبيت سلطة دكتاتورية شمولية، تحت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ولم تتوانَ عن قمع كل حراك شعبي طالب بالحريات. وكما بررت قمع الحريات بالاستعداد للحرب وبالقضية الفلسطينية وهزيمة إسرائيل قبل حرب 67، بررت قمع الحريات واعتماد قانون الطوارئ بالاستعداد للحرب مرة ثانية.
كان الدرس الأهم الذي استخلصته القوى الثورية والديمقراطية التي بدأت تنتزع هامشا لنضالها ولنقد فكر وأسباب الهزيمة مستفيدة من صعود الثورة الفلسطينية التي انتزعت مواقع لها في أكثر من بلد عربي، وطرحت شعار حرب التحرير الشعبية كبديل لحرب الجيوش التي قدمت نموذجا للعجز والفشل والهزيمة.
لقد تراجع هذا البديل مع كل تماهٍ لتنظيمات الثورة الفلسطينية مع الأنظمة، وصولاً إلى القطع مع الرهان على الشعوب العربية، بفعل القصور الفكري الذي لم يستوعب دروس الهزيمة، وبفعل تماهي نخب سياسية وثقافية مع فكر الأنظمة التي عمقت استبدادها وانتقلت إلى طور أوليغارشية حاكمة لم تخجل من تبني توريث الحكم للأبناء.
كان من نتائج الهزيمة اعتراف تلك الأنظمة بإسرائيل وبدورها الكولونيالي الكابح لتطور واستقلال وحرية شعوب المنطقة من خلال اعترافها بقرار مجلس الأمن رقم 242، الذي عبر عن تلك الهزيمة.
ومن جهة أخرى عززت الهزيمة التحولات الرجعية الداخلية التي أدخلت الأنظمة المهزومة يوماً بعد يوم في علاقات تبعية جديدة.
فالأنظمة التي اعترفت بإسرائيل وبحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة، لم تعترف بالهزيمة ولا بمسؤوليتها عنها.
لهذا لم تحاكم المسؤولين عنها إلا تحت ضغط الانتفاضة الطلابية العمالية في مصر.
وكانت الأحكام مخففة ولا تتناسب مع مستوى الهزيمة ولا بأي حال. بل صعد وزير الدفاع السوري المسؤول الأول عن الهزيمة إلى سدة الحكم واعتبرت القيادة السورية أن حرب 67 لم تحقق أهدافها لأنها لم تستطع إسقاط النظام التقدمي الذي ازداد "تقدمية" بانقلاب 70.
وعندما حاولت الأنظمة تحسين شروطها في حرب تشرين الأول/ اكتوبر 73، كانت نتيجة الحرب التأكيد على الالتزام بقرار الهزيمة المخزية رقم 242 برقم جديد قرار 338 كنتيجة للحرب التي قالت إنها انتصرت فيها وسماها النظام الأسدي "حرب تشرين التحريرية" وسماها نظام السادات "العبور والتحرير".
منذ "النكسة"، "الرضة"، "الهزيمة المنكرة" عبرنا هزائم متلاحقة بدأت بالتحالف مع الأنظمة التابعة بقيادة السعودية والتسليم بدورها في رعاية التحولات الرجعية في طول وعرض المنطقة العربية، والتسليم "بالسلام الأميركي الإسرائيلي" الذي يملك 99 % من مفاتيح الحل، وانتهت باتفاقات مذلة و"سلام" ما نزال نشهد فصوله حتى اليوم.
المفارقة في النضال الفلسطيني الذي تمرد بعد الهزيمة "الرضة"، وتحالف مع الشعوب كبديل للأنظمة، ثم جمع في تحالفه بين الأنظمة والشعوب، ثم عاد أدراجه للأنظمة فكانت فضيحة الانحياز للأنظمة وإدارة
الظهر للشعوب في كل انتفاضات الربيع العربي التي كانت محاولات حقيقية للإفلات من براثن الهزيمة.
خلافاً لذلك ركبت تنظيمات الثورة برنامجها التحرري على أنظمة السلام الأميركي، وقرارات الهزيمة 242، 338، والتحولات الرجعية المتنافرة مع التحرر، والتي أطفأت عناصر التحرر بمضمونه الاجتماعي الديمقراطي.
السؤال المحير سابقا والآن، كيف نحقق تحررنا على قاعدة هزيمة وتحولات رجعية، ومن خلال "أنت الخصم والحكم"؟. في الذكرى الـ 53 للهزيمة نستطيع استبيان ما يحدث اليوم من تنكر الأنظمة للقضية الفلسطينية.
واستبيان إهدار كل نقد سابق للهزيمة ومخرجاتها وافتخار جزء مهم من النخب بوجودها الطوعي في خنادق الاستبداد والمال السياسي.
قد يهمك أيضا :
هل نجحت تجربة التعليم عن بُعد؟
الفشل لا يغير الهدف المركزي بل يعيد بناءه