لم يعد صعباً على أحد منا تقديم قراءة سياسية لما تضمنته خطة الرئيس ترامب في الابعاد السياسية المباشرة لهذه الخطة، ولم يعد صعباً الوقوف على كافة المدلولات العملية التطبيقية لها. فقد أضحى واضحاً وضوح الشمس أن الخطة تقزّم الاهداف الوطنية للشعب الفلسطيني وتختزلها في حكم ذاتي على أقل من نصف مساحة الضفة، اضافة الى قطاع غزة وبعض احياء القدس الشرقية والمناطق التي
سيتم توسيعها باتجاه النقب. وهذه المساحة بالذات ما زالت «سائلة» وقابلة للتغيير والتبديل ـ على ما يبدو ـ حسب سير العملية السياسية التي تقترحها الخطة، بما في ذلك اقتراحات تبادل السكان مع جنوب المثلث وصولا الى منطقة وادي عارة. على أن الأهم هنا هو أن «الكيان» الفلسطيني المقترح ليس له أي سيادة باستثناء درجة معينة من الادارة الاجتماعية والاقتصادية على سكان هذه
الجغرافيا المتناثرة ومقطعة الأوصال في الواقع في ضوء السيطرة الأمنية الاسرائيلية عليها، وفي ضوء «حق» اسرائيل للدخول اليها والتدخل فيها وفق الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية.
وفي قراءة الأبعاد السياسية لخطة ترامب فلا يمتلك هذا الكيان من مفهوم السيادة على الحدود والمعابر اي هوامش سيادية، وهو كيان ملحق بالاعتبارات الأمنية الإسرائيلية، وتابع من توابع السيطرة
الاقتصادية الإسرائيلية، بما في ذلك السيطرة الإسرائيلية المطلقة على الموارد والأجواء والحدود وكامل غلاف التحكم الإسرائيلي في كل المجالات. بهذا المعنى فإن الحديث عن «حل الدولتين» هو خداع وتزييف، وهو فاقد للمصداقية وينطوي على أعلى درجات الوقاحة والكذب المكشوف. وبهذه المعاني كلها فقد وصل التقزيم الى نفي قيام دولة وطنية، وتجاهل كامل لحق اكثر من ستة ملايين في
العودة أو حتى مجرد البحث عن حل متفق عليه لهذه القضية، وانتهى وفق خطة ترامب شيء اسمه استقلال وطني وحق تقرير المصير الذي تقره الشرعية الدولية والقانون الدولي.
وأما الإغراءات الاقتصادية و»الوعود» السياسية فهي في الواقع ليست الا رشوة رخيصة وخداعا نعرف حقيقته ونعرف مدلولاته الحقيقية في الواقع السياسي الإسرائيلي وفي البرامج السياسية لغالبية
الأحزاب الإسرائيلية. لكن دلالات خطة ترامب أعمق واكبر واهم من مدلولات القراءة السياسية لهذه الخطة. فقد كشفت «صفقة» ترامب وبصورة لم يسبق لها مثيل عن صدام تاريخي بين مشروعين متناقضين. مشروع صهيوني عنصري استعماري، توسعي وعدواني، قام وتوحد خلال أكثر من سبعين عاما من السياسة العدوانية والتوسعية، وهو يحاول اليوم ومن خلال هذه الخطة بالذات إحكام
السيطرة على كامل فلسطين التاريخية والزجّ بأكثر من ثلاثة عشر مليوناً أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما. سكان مقيمون في معازل سكانية تحت الاحتلال، وتحت سيطرة التحكم العنصري المباشر بدون أي حقوق وطنية، وآخرون عليهم البحث عن سبل للعيش حيث يتواجدون الآن وبعيداً عن فلسطين. وبالمقابل هناك مشروع وطني تمثله منظمة التحرير الفلسطينية والذي يهدف الى إقامة دولة
وطنية مستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967 بما فيها القدس الشرقية، وبما يحقق لكل فلسطيني خارجها حقه في العودة في إطار حل سياسي متفق عليه على قاعدة القانون الدولي والشرعية الدولية. خطة ترامب كشفت ان بين هذين المشروعين صراعا وتناقضا لا يمكن حله دون حل المسألة الوطنية للشعب الفلسطيني. المشروع الصهيوني لا يعترف بهذا الحل ويعمل على تصفيته، وهو
يكرس كامل قوته وجبروته بهدف منعه من التحقق، بل يعتبر أن توطيد المشروع الصهيوني نفسه بات يتطلب اجهاض واحباط المشروع الوطني الفلسطيني. ولذلك وصلنا اليوم «بفضل» خطة ترامب إلى نهاية الطريق المغلق، وبات علينا ان نشق طريقاً جديداً سيستحيل علينا البقاء والصمود دون أن نسارع اليه ودون أن نباشر إلى عبوره. الصراع بات مكشوفاً وعاد الى حيث يجب ان يعود.
الآن يتبين أن «السلام» الأميركي الاسرائيلي هو السلام الذي يُنهي المسألة الوطنية للشعب الفلسطيني، ويكرس المشروع الصهيوني في السيطرة على فلسطين الارض والجغرافيا والتاريخ والرواية ويحوّل اسرائيل الى دولة يهودية عنصرية استعمارية مسيطرة. وعلينا أن ندرك بعمق أن خطة ترامب من حيث لا يعلم صاحبها ولا يعي قد قدمت لنا هدية العصر، وأسدت لنا معروفاً لن ننساه له ابداً
وهو أن المشروع الصهيوني لا يتحمل ولا يحتمل تعايشاً ممكناً مع ادنى مقومات حقوقنا الوطنية، وان انتزاع هذه الحقوق سيكون بالضرورة نتاجاً لعملية صراعية تمكن الشعب الفلسطيني من فرض حقوقه في موازين قوى مواتية تاريخية. إن وصول المشروع الصهيوني إلى هذه الحدود هو التعبير الأوضح عن أزمة هذا المشروع، لأنه في الواقع يتموضع في تاريخ وجغرافيا العنصرية وربما
الفاشية، وهو يحكم على نفسه بالتمترس في خندق يستحيل الصمود فيه طويلاً، وفي أغلب الظن سيكون الخندق الأخير وخط الدفاع الأخير، أيضاً. وسيجد كل وطني فلسطيني صعوبة كبيرة من اليوم فصاعداً لخلافات واختلافات جدية بقدر ما يتعلق الأمر بمواجهة المشروع الصهيوني وأدواته وسياساته وتحالفاته، وهو أمر سيعيد هندسة الأدواتية الفلسطينية الكفاحية، وسيملي على كل فلسطيني
العودة إلى جذور الصراع وأصوله وإلى عروبته وتحرّريته. أدخلنا ترامب في مرحلة العودة الى الذات، والعودة الى وحدة الموقف وصلابة البيت القادر على مجابهة جديدة تعيد الصراع إلى مسالكه الإجبارية وأدواته الفعّالة.
قد يهمك ايضا :
أُحجية «الضم»! ما العمل؟
عندما يتقمّص ترامب دور الفهلوي والكومبارس