لستُ من الناس الذين يصدقون أن الموجة الأخيرة التي ضربت ـ وما زالت تضرب ـ فلسطين، وخصوصاً في منطقتي الخليل ونابلس ومناطق أخرى هي موجة اعتيادية ناتجة فقط عن درجات معينة من الاختلاط بُعيد عيد الفطر، وفي ضوء تخفيف الكثير من الإجراءات بعد فترة طويلة من الإغلاق الكلي والجزئي وحركة ما بين المدن والمحافظات.
الاستخفاف والاستهتار واللامبالاة التي لمسناها جميعاً ربما قد فاقمت من انتشار الفيروس على هذا النطاق الخطر. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد فيما أرى وفيما أعتقد.
تعالوا نفكّر بصوت مسموع وبكامل الهدوء.
هل أن ما يشاع ويُبثّ وينشر في تجمعات بعينها، وفي أجواء معيّنة حول ان كل قضية "كورونا" هي "مؤامرة" من قبل "العالم"، ويتم استخدامها من قبل الحكومة والسلطة لغاية او غايات في "نفس يعقوب" لإبعاد الناس عن التجمعات، والجمهرة وخصوصاً في "بيوت الله" ... هل أن ذلك مجرد وجهة نظر عند هؤلاء ام أن الأمر ينطوي على أبعادٍ أخطر بكثير مما يقال ويشاع، ومما يرمي إليه ويستهدفه !!؟
هل الاستهتار شبه الجماعي في بعض المناطق، ومن فئات اجتماعية بعينها وبنفس الوسائل والاساليب، وباستخدام نفس الحجج والذرائع، واللجوء إلى نفس السلوكيات وتكرارها قد جاء بالصدفة المحضة ولاسباب تتعلق بالجهل والاستهتار فقط !؟؟؟
وهل هذا الضخ الاعلامي المكثّف جداً والمركز بصورة اكثر من لافتة، وبوضوح لا يقبل التأويل غالباً، هو فعلاً مجرد تعبير عن تخلف وجهل وعن انعدام المسؤولية، وعن أنانيات مفرطة ليس إلّا ؟؟؟
وهل تكمن المشكلة في الأعراس وقاعات الافراح والعزاء دون أي اكتراث، بالنتائج الصحية، أم أن تحويل الامر برمته إلى "حالة مؤامرة" هو بالاساس استهداف سياسي من قبل بعض الاوساط المحسوبة على بعض التيارات الدينية، وبعض الاوساط الاجتماعية لكي "تُخفق" التجربة الفلسطينية في مواجهة الجائحة، ولكي تسود حالة من "العجز" تولّد بالضرورة حالات وحالات من الفوضى والانفلات، على طريق تحويل "الاخفاق" الصحّي إلى اخفاق سياسي كبير، وإلى احباط كل امكانية للمجتمع على التماسك في مواجهة ما سيستجدّ من احداث وتطورات عاصفة وكبيرة وعلى أعلى درجات الأهمية، في مرحلة نبدو فيها كلّنا كفلسطينيين عند حافة كارثة صحية ستفضي حتماً إلى كارثة سياسية في ظروف فاصلة، ومفصلية؟؟
وحتى لو أن جزءاً من الاصابات الكثيرة الجديدة قد نتج عن اختلاط العمال المصابين القادمين في مواقع العمل في الداخل، أو أن بعض هذه الإصابات قد نتجت عن زيارات اجتماعية أو تسوّقية أو غيرها من الأسباب، فهل يُفسّر ذلك هذه القفزات الكبيرة في الأعداد، أم أن ثقافة المؤامرة المنتشرة على نطاق واسع هي الأرضية الخصبة والمناسبة للانتشار الواسع، وهي بالذات من تحاول بكل الإمكانيات المتاحة أن تتجاوز كل الإجراءات الحكومية والرسمية عن عمدٍ وسابق إصرارٍ وترصُّد؟
ثم لماذا تتم كل هذه الاستهتارات شبه الجماعية في هذه الأوساط، في حين أن غالبية الناس ترى فيها خللاً خطيراً، وتدعو إلى التصدي لها، وتحذّر من نتائجها المدمّرة على الحالة الوبائية، وعلى الحالة الاقتصادية المتردية أصلاً، وعلى قدرة الجميع على المواجهة والصمود في هذه الظروف المصيرية؟!
لا أستثني ولا أنكر، وليس لأحدٍ أن يستثني أو يُنكر بأن بعض مظاهر الاستهتار لا ترتبط بالضرورة، وبصورة مباشرة بنظرية مؤامرة "كورونا"، وفي الكثير من الأحيان، فإن عدم الاكتراث يعود لاعتبارات اقتصادية ضاغطة، وفي حالات بعينها يكون هناك من الميل النفسي لهذه اللامبالاة بعد تراجع معدّلات الإصابة، ويحدث أن تطفو اللامسؤولية على سطح التصرفات والسلوك بسبب انعدام الثقة أو هشاشتها بالمؤسسات الرسمية، لكن هذا كله شيء والحملات المركزةّ والمكثفة للغاية من قبل اوساط معينة بترويج كل ما من شأنه تحويل حالة عدم الاكتراث إلى سلوك اجتماعي جمعي وعام، واستخدام الإمكانيات ورصد الموازنات، وتنظيم الاجتماعات والندوات لترويج هذه الافكار والدعوة الصريحة للتمرّد على الاجراءات، شيء آخر.
كما لا يمكن إنكار أن توجّه عشرات آلاف العمال إلى العمل في الداخل، وعودتهم إلى بلداتهم وأماكن عيشهم في المدن والقرى المجاورة للخط الأخضر، وخصوصاً الذين يعملون هناك بصورة غير قانونية، مسألة من المستحيل ضبطها، وفي هذا كله تكمن ثغرة غير معتادة في أي بلد من بلاد هذا العالم، وهو أمر يزيد من صعوبات التصدي لهذا الوباء، ويرتّب على المؤسسة الرسمية أعباءً غير منظورة، وغالباً ما تكون خارج السيطرة المباشرة، إذ نكاد نكون ليس مجرّد حالة فردية، وإنما حالة وحيدة في هذا العالم، من هنا فان ارتفاع دور العوامل الخارجية عن السيطرة ربما يزيد من تفاقم أزمة التفشي.. لكن الموجة الأخيرة من الانتشار تجاوزت تأثير هذه العوامل وبما لا يُقاس.
الاستهتار الناتج عن مواقف سياسية واجتماعية ليس حالة فلسطينية فريدة أبداً.
فبالعودة إلى المعدلات المرعبة في مرحلة المتواليات الهندسية في إيطاليا مثلاً، كان الترويج والحقن والتحريض الذي يقف في خلفية المشهد آنذاك ليس، في جانب كبير منه، الا "ثمرةً" من ثمار مواقف سياسية من منظمات سياسية واجتماعية، معروفة ومشخّصة، ولم يكن تحريضها مطلقاً في الخفاء، كما لم تكن الأفكار التي كانت تروّج آنذاك ملتوية أو غير مباشرة.
أبداً وعلى العكس من هذا كله كان يجري الحديث عن تلك المؤامرة جهاراً ونهاراً وبكل وضوح وبمنتهى الصراحة.
وقد جرى هذا الأمر وسادت هكذا عقليات في بلدانٍ أخرى، تحت اعتبارات ومسمّيات وتبريرات مماثلة أو مطابقة.
المشكلة أن الغالبية الواعية واليقظة لا تتصدى لهؤلاء، ولا تفعل شيئاً للدفاع عن صحة المجتمع وسلامته، وليس لديها أي دور يُذكر في مسألةٍ على درجةٍ كبيرة من الخطورة، وفي مسألة لا تقتصر على صحة وسلامة المجتمع وإنما هي على علاقة عضوية وصميمية بمنَعَتنا السياسية وقدرتنا على الصمود.
قد يهمك أيضا :
عن مناقشات البيت الأبيض حول «الضم» ؟!
معادلة الإرباك والانهماك في إسرائيل