لم أضع المناقشات بين مزدوجين كما فعلت بالنسبة لكلمة الضم لأسباب لعلّ من أهمها على الإطلاق أن هذه المناقشات قد بدأت بالفعل، أو ستبدأ خلال عدة ساعات من كتابة هذا المقال ـ وليس من نشره اليوم في «الأيام» ـ ولأن هذه المناقشات معلن عنها مسبقاً، كما ما هو معلن جدول أعمالها للمناقشة، كذلك الفريق الكامل المشارك بالأسماء والألقاب والصفات والصلاحيات.
ولولا كل هذه الوقائع الماثلة أمامنا جميعاً لاعتبرت أن ما يجري في البيت الأبيض مسرحية سياسية تنتمي إلى عالم اللامعقول، في الحقل السياسي، وإلى السريالية في حقل الفنون.
إذ كيف يقبل هذا العالم، العالم الذي يعلن تكراراً ومراراً، جهاراً ونهاراً أنه يناهض العدوان والتوسع، ويناصر الحرية والحقوق المشروعة، ويرفض الظلم والاستيلاء، ويبحث عن العدل والعدالة، وينادي بهما.. كيف يسمح هذا العالم بأن تعقد هذه المناقشات دون أن يندد بها ودون أن يعتبرها مناقشات خطيرة على الأمن والسلام العالمي، والاستقرار الدولي، أيضاً؟
وكيف يسمح هذا العالم، وكيف يصمت على جريمة تُقترف في وضح النهار، وعلى رؤوس الأشهاد للتقرير بشأن القطعة أو مجموعة القطع المنوي سلخها من جسد الشاة الفلسطينية المعلّقة ـ على حد تعبير حسن البطل ـ، وفيما إذا كان السكين المجلّخ جيداً سيقتطع على الفور قطعةً كبيرة، أو أخرى أصغر منها، وفيما إذا كان السلخ سيبدأ من المناطق الدسمة من هذا الجسد، أم سيكتفي الجزّارون المحترفون بمنطقة اللحم المُشفّى الجاهز؟
ثم كيف يسمح هذا العالم الذي يُسمى عربياً، ومن خلفه العالم الذي يُسمى إسلامياً أن تبدأ هذه المناقشات دون أن يخرج صوتاً واحداً ـ ولو حتى لدرء الحسد ـ باستثناء «الهمّة» الإعلامية المشهورة في التراث السياسي لكلا العالمَين، وحروب الإنشاء والمجاز والاستعارات التي يعجّ بها خطاب هذه العوالم الغريبة العجيبة؟!
يسير أمر هذه المناقشات وكأنّ اتفاقيات «سايكس ـ بيكو» قد حدثت في العصور السحيقة، أو وكأنّ ما وصلنا عن هذه الاتفاقيات يعود إلى العصور الشفوية!
كما يسير الأمر، أيضاً، وكأنّ تشطير فلسطين، وشرذمة العراق وتقطيع سورية وتدمير اليمن وتجزئة ليبيا قد تمّ في العصور الوسطى أو قبل ميلاد السيّد المسيح.
أما وأن العالم، عالم «الحريات» و»الديمقراطية» و»حقوق الإنسان»، قد صمت صمت القبور على مبدأ عقد هذه الاجتماعات، وأن العالم العربي والإسلامي من خلفه أو إلى جانبه قد أثبتوا بما لا يدع مجالاً للشك أن فقدان الذاكرة والعيش «الآمن» في رحاب الغيبوبة هو الحل الأمثل، فقد أصبح لزاماً علينا «الاعتراف» بهذا الواقع، أي واقع السلخ المتوقع، وأصبح بمقدورنا أن نخمّن الآن دور كل فرد من أفراد هذه الطواقم، بما في ذلك خبراء التشريح والجغرافيا والديمغرافيا، إضافةً طبعاً إلى خبراء علم النفس والاجتماع والاقتصاد والانتخابات والاستراتيجيات.
كما سيضاف إليهم على هامش هذه الاجتماعات خبراء في مجال بناء الأنفاق والأسوار الحديدية والإسمنتية والكهربائية، ومحطات للرصد والاستشعار، وكل ما يتطلبه ذلك (كل ذلك) من ضخّ إعلامي وخبرات خاصة في مجال العلاقات العامة والدبلوماسية.
انطلاقاً من صمت هذه العوالم ـ حتى الآن ـ ومن واقع أن السلخ والاستيلاء الذي يصطلح عليه بالضم، والأصح أن نقول السلخ والالتهام، قد أصبح على طاولة المناقشة، وفي البيت الأبيض وبمشاركة نشطة من أعضاء فريق السلخ، وحيث أن شرط المشاركة فيه أن تكون صهيونياً حتى النخاع، وأن لا تكون أميركياً إلاّ بالمعنى الصهيوني لهذا المدلول، فقد أصبح من واجبنا إبراز بعض الحقائق والوقائع التي لا غنى عنها:
أولاً، سواء تمت هذه الاجتماعات وانتهت خلال يوم أو يومين أو تم إرجاء القرارات التي ستنتج عنها لأسبوع أو عدة أسابيع، بما قد يؤجل القرار الإسرائيلي، فإن السلخ والالتهام لم يعد مطروحاً للموافقة أو الإلغاء، وإنما للتجزئة أو التأجيل فقط.
ثانياً، بعد أن «فشل» فريدمان في التوفيق بين نتنياهو وغانتس على خطة واحدة وشروط بعينها لهذه الخطة، وبعد أن كان هذا المطلب الأميركي هو أحد شروط الموافقة الأميركية على السلخ والاستيلاء، تحول الأمر ـ في ضوء هذه المناقشات بالذات ـ إلى توافق أميركي - أميركي كشرط لموافقة إسرائيل على تأجيل أو تجزئة هذا السلخ.
ثالثاً، يبدو أن الأمور ستقلب رأساً على عقب، بحيث أن إسرائيل ستتولى «إقناع» الإدارة الأميركية بعدم «خطورة» ما يُقال على لسان الاتحاد الأوروبي، وطبعاً بعدم وجود أي «خطورة» لما يُقال على لسان العرب وتابعيهم ومتبوعيهم، ولا حتى بأهمية ما يقوله الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، وطبعاً لعدم وجود أهمية تذكر للموقف الفلسطيني وردود أفعاله المحتملة.
كل ما تطلبه إسرائيل ـ على ما يبدو هو الحصول على عدم تراجع الولايات المتحدة عن مبدأ السلخ تحت أي ظرفٍ من الظروف، وأن يتم تحويل مبدأ التأجيل مهما كان قصيراً أو طويلاً أو التجزئة إلى شرط لتبنّيه أميركياً و»تسويقه» إلى العالم العربي، وإلى العالم باعتباره «تنازلاً» كبيراً يُحتّم على القيادة الفلسطينية الدخول إلى المفاوضات بهدف إما قبوله أو تقبّله، أو التفاوض بشأنه كجزء من الترتيبات الجغرافية والديمغرافية التي ستحدد خريطة إسرائيل السائلة أمنياً والمؤقتة جغرافياً، شأنها في ذلك شأن حدود الدولة الفلسطينية الثابتة جغرافياً والسائلة ديمغرافياً والمستباحة أمنياً.
رابعاً، وأخيراً، فإن إسرائيل لديها من الوقائع و»الوثائق» ما يقنع الإدارة الأميركية بهذا المسار المعدّل، وهي وثائق تتعلق بالموافقة الضمنية من قبل حكّام غزة على حصة ما في إطار هذه الترتيبات، وعلى البدء بتنفيذ خطة البديل السياسي للمنظمة مكوناً من القوى العشائرية التي بدأت تطل برأسها لهذا الدور، متحالفة مع قوى سياسية إسلاموية جاهزة للمساعدة والمساندة، ومن قوى وشرائح ترتبط مصلحياً بالاحتلال والبقاء في ظلاله وتحت رحمته وحمايته.
وما هي إلاّ عدة أسابيع حتى نرى الكيفيات التي من خلالها ستشرع إسرائيل بتطبيق هذه الخطة على الأرض وبتسارع غير معهود، إلاّ إذا تدارك الشعب الفلسطيني بسرعة هذه الخطط وبدأ بتهميشها تباعاً.
والمراهنة كلها على ردة فعل الشعب الفلسطيني عليها.
قد يهمك أيضا :
«أُحجية الضمّ»!
ليبيا في مهبّ العاصفة!