التحرُّكاتُ الأردنيّةُ تُجاه القضيّةِ الفلسطينيّةِ والقُدسِ، ليستْ مجرَّد كلامٍ لا يتطابقُ مع أفعالٍ أو أنّه يدخلُ تحتَ بابِ المُناوراتِ السياسيّةِ، فالموقفُ القوميُّ الشجاعُ والفعّالُ للأردنِّ قيادةً وحكومةً وشعبًا، ليس جديدًا بل هو امتدادٌ لتلكَ المواقفِ القوميّةِ المبدئيّةِ، التي التَزمَ بها الأردنُّ دومًا، انطلاقًا من استشعارهِ لمسؤوليتهِ القوميّةِ في مناصرةِ قَضايا الحقِّ العربيِّ، وفي مُقدّمتها قضيةُ الشعبِ الفلسطينيِّ والتزامُهِ بحمايةِ المقدّساتِ.
بلغةٍ صَريحةٍ وواضحةٍ، يُجدّدُ الملكُ الموقفَ الأردنيَّ: القدسُ خطٌ أحمرُ، ومِن غير المَسموحِ المَساسُ بالمسجدِ الأقصى الشّريف، وهذا الموقفُ ينطلقُ من الواجبِ الدينيِّ والإنسانيِّ والتاريخيِّ المجيدِ للأردنِّ تجاه المقدّسات، كونها قضيةً مُقدّسةً وغير قابلةٍ للتفريطِ والمُساومةِ، وهي بوابةُ كلُّ الحُلولِ للصّراعِ العربيِّ- الإسرائيليِّ.
وجهودُ القيادةِ الهاشميّةِ، ليستْ خافيةً على أحدٍ، في الذّودِ عن القُدسِ وعُروبتِها، وعن مُقدّساتِها وأهلِها المُرابطينَ، والسّعيِ الحَثيثِ للمُحافظةِ على المُقدّساتِ فيها، وإعمارِها وإدامتِها وحمايةِ طابعِها وهويتِها العربيّةِ، ومنعِ مُحاولاتِ تهويدِهَا، ولتبقى المُقدّساتُ الإسلاميّةُ والمَسيحيّةُ فيها خطًا أحمرَ أردنيًا، تجسيدًا للموقف الأردنيِّ الثابتِ والرّاسخِ، الذي يقومُ على أساسِ قيامِ الهاشميينَ بمسؤولياتِهم التاريخيّةِ والشرعيّةِ والدينيّةِ والقوميّةِ والإنسانيّةِ، تجاه المدينةِ المُقدّسةِ، والأماكنِ الإسلاميّةِ والمسيحيّةِ فيها، على حدٍّ سَواء.
ظلَّ الصوتُ الأردنيُّ - ولا يَزال وسَيبقى - مرفوعًا بقوّةٍ وشجاعةٍ في المُجاهرةِ بكلمةِ الحقِّ دونَ خوفٍ أو تردُّدٍ في الدّعوةِ الصّادقةِ إلى التّضامنِ والوحدةِ بينَ أبناءِ الأمّةِ العربيّةِ والإسلاميّةِ في مُواجهةِ التّحدياتِ والمخاطرِ التي تُحدقُ بِهم على أكثرِ مِن صَعيدٍ ومكانٍ، وصولاً إلى ما يُحقّقُ مَصلحةَ الأمةِ والانتصارَ لقَضاياها، وبخاصةٍ القضيّةَ الفلسطينيّةَ ونصرةَ الشّعبِ الفلسطينيِّ.
الوِصايةُ الهاشميّةُ على الأماكنِ المُقدّسةِ في القُدسِ الشّريفِ تُجسِّدُ أهميّةَ القُدسِ بالنسبةِ لجلالةِ المَلكِ والأردنِّ، وهي استمرارٌ للدّورِ الهاشميِّ في رعايتِها وحمايتِها، ولتُعزّزَ التّعاونَ الأردنيَّ الفلسطينيَّ التاريخيَّ في حمايةِ الأماكنِ المُقدّسةِ من انتهاكاتِ الاحتلالِ التّعسفيّةِ والدّفاعِ عن المُقدّساتِ، خصوصًا في المَحافلِ الدوليّةِ، وهي بالقطعِ ليستْ منازعةً للأردنِّ على فلسطينَ، بل لنُصرةِ الفلسطينيينَ في المُطالبةِ بحقوقِهم العَادلةِ والمَشروعةِ، ذلكَ أنّ الوِصايةَ هي دينيّةٌ وقانونيّةٌ وإداريّةٌ، أَمْلَتْهَا المسؤوليّةُ التاريخيّةُ والدينيّةُ للهاشميينِ على هذه المُقدّساتِ التي تتهدَّدُها الأخطارُ التهويديةُ المُتعدّدةُ، وهي تهدفُ للحِفاظِ على الولايةِ العربيّةِ والإسلاميّةِ على المدينةِ المُقدّسةِ.
ما يُقاربُ قرنًا مِن الزّمانِ، والهَاشميونَ يَقومونَ بمسؤولياتِهم التاريخيّةِ والشرعيّةِ والدينيّةِ والقوميّةِ والإنسانيّةِ، تجاه المدينةِ المُقدّسةِ، والأماكنِ الإسلاميّةِ والمَسيحيّةِ فيها، على حدٍّ سَواء... إذْ قبلَ 95 عامًا وتحديدًا في الحَادي عَشر مِن شهرِ آذار سَنة 1924م، بَايَعَ مسؤولونَ فلسطينيونَ وأهلُ القُدسِ وفلسطينَ، الشّريفَ حُسينَ بن عَلي الهاشميّ بالوصايةِ على المُقدّساتِ الإسلاميّةِ والمَسيحيّةِ في القُدس.
وبالتّحديدِ في العَامِ ذاتِهِ طَلبَ رئيسُ المجلسُ الإسلاميِّ الأعلى في فلسطينَ، أمينُ الحُسينيّ مِن الأميرِ عَبدالله ابن الحُسين، أنْ يكونَ وصيًّا ومُشرِفًا على عِمَارةِ المُقدّساتِ الإسلاميّةِ في القُدس وصيانَتِها من الأخطارِ المُتراكمَةِ، حيثُ تبرّعَ الأميرُ عَبدالله بـ 38 ألفَ ليرةٍ ذَهبيّةٍ مِن مَالهِ الخاصِّ، إضافةً إلى تبرعاتٍ قُدِّمتْ مِن العِراقِ والهندِ وعددٍ من الدّولِ الإسلاميّةِ.
وبدأَ إعمارُ المَسجدِ الأَقصى وقُبةِ الصّخرةِ مُنذُ عَهدِ الشّريفِ حُسين بن عَلي، الذي تبرّعَ عام 1924 بِمبلغِ 24 ألفَ ليرةٍ ذَهبيّةٍ، وأوصَى الشّريفُ حُسين أنْ يُدفنَ في حَرمِ المَسجدِ الأَقصى وتَحقّقَ لهُ ذلكَ.
وفِي عَهدِ المَلكِ عَبدالله بن الحُسين، خاضَ الجيشُ العربيُّ الأردنيُّ الحربَ العربيّةَ الإسرائيليّةَ عَام 1948،الذي دافعَ واحتفظَ بالسيطرةِ على القُدسِ القَديمةِ واللطرونِ وبابِ الواد ورامَ الله.
وتعزَّزتِ الوصايةُ عام 1950 باتفاقيّةِ الوحدةِ بينَ الضّفتينِ الغربيّةِ والشرقيّةِ (فلسطين والأردن)، واستُشهدَ الملكُ عَبدالله بن الحسين بعدَ الوحدةِ بـ 15 شهرًا عام 1951 على عَتبةِ المَسجدِ الأَقصى ومَسجدِ القُبّة.
أمَّا فِي عَهدِ الملكِ الحُسينِ بن طلالٍ، فقدْ أمرَ بتَشكيلِ لجنةٍ لإعمارِ الأماكنِ المُقدّسةِ فِي القُدسِ، عُرفتْ بقانونِ (إعمارِ المَسجدِ الأَقصى المُباركِ وقُبةِ الصخرةِ المُشرّفةِ لسَنةِ 1954)، حيثُ بدأَ تنفيذُ الإعمارِ الهاشميِّ منذُ سَنةِ 1958.
ولَمْ يتأثّرْ اتفاقُ الوحدةِ بحَربِ 1967، وذلكَ بسببِ أنَّ مُعظمَ المُقدّساتِ والمَسجد الأقصى، تقعُ في الجُزءِ الشّرقيِّ مِن القُدسِ المُحتلِ حسبَ القانونِ الدوليِّ.
وتَعرّضَ المسجدُ الأَقصى عامَ 1969 للحريقِ مِن قِبَلِ الصّهاينَةِ، وتَمَكَّنتْ لجنةُ الإعمارِ الهاشميِّ من إعادةِ المَسجدِ الأَقصى كَما كانَ عَليهِ قبلَ الحَريقِ.
وشَهِدَ عامُ 1988 فكَّ الارتباطِ بينَ الأردنِّ والضّفةِ الغَربيّةِ، مع الإبقاءِ على الوِصَايةِ الهاشميّة، بطلبٍ مِن مُنظّمةِ التّحريرِ الفلسطينيّةِ.
وفِي اتفاقيّةِ السّلامِ بينَ الأردنِّ وإسرائيلَ (وادي عَربَة) عامَ 1994، نصَّتْ بشأنِ احترامِ الدّورِ الأردنيِّ والوصَايةِ الهاشميّةِ على المُقدّساتِ الإسلاميّةِ فِي القُدس.
واستمرارًا للنهجِ الهاشميِّ فِي رِعايةِ المُقدّساتِ بالقُدسِ، تمَّ إنشاءُ الصندوقِ الهاشميِّ لإعمارِ المَسجدِ الأَقصى وقُبّةِ الصّخرةِ المُشرّفةِ، بموجبِ قانونٍ صَدَرَ عامَ 2007 بعد تَعديلِ قانونِ إعمارِ المَسجدِ الأَقصى لسَنةِ 1954، حيثُ تمَّ إعادةُ بناءِ مِنبَرِ المسجدِ الأَقصى المُباركِ (مِنبرُ صلاحِ الدِّين) وتَركيبهِ في مَكانهِ الطبيعيِّ بالمسجدِ، وتَرميمِ الحائطِ الجنوبيِّ والشرقيِّ للمَسجدِ الأَقصى.
ووَقّعَ جلالةُ المَلكِ عَبدُالله الثّاني والرّئيسُ الفلسطينيُّ محمود عباس عامَ 2013 اتفاقيّةَ الوصَايةِ والرّعايةِ، ثَبَّتَ مِن خِلالها الأردنيونَ والفلسطينيونَ الوصَايةَ الهاشميّةَ على الأوقافِ المُقدّسةِ بالقُدس. وتَواصلتِ الرعايةُ الهاشميّةُ للقُدسِ فِي عَهدِ جَلالةِ المَلكِ عَبدالله الثّاني ابن الحُسين، الذي ستَذكُرُهُ الأَجيالُ فِي وَصفِ المَسجدِ الأَقصى، ورِعَايةِ المُقدّساتِ الإسلاميّةِ والمَسيحيّةِ، وتتوقّفُ عندَ أعمَالِهِ وبَصَمَاتِهِ.