كما كان متوقعا فقد كَلَف الأخ الرئيس أبو مازن، رئيس لجنة الانتخابات المركزية الدكتور حنا ناصر، باستئناف الاتصالات فورا مع القوى والفعاليات والفصائل والجهات المعنية كافة، من أجل التحضير لإجراء الانتخابات التشريعية، على أن يتبعها بعد بضعة أشهر الانتخابات الرئاسية، وفق القوانين والأنظمة المعمول بها، كما أنه أصدر تعليماته للحكومة وللأجهزة المعنية كافة بالعمل على توفير جميع المتطلبات اللازمة لإجراء الانتخابات.
لا شك بأن صندوق الاقتراع هو الطريق الوحيد لإعادة الحياة الديمقراطية إلى النظام السياسي، وهو خطوة مهمة باتجاه ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني وتمتينه لمواجهة صفقة القرن الهادفة إلى تصفية القضية الوطنية واستكمال المشروع الصهيوني في إقامة الدولة اليهودية من النيل إلى الفرات، ولنا في الاتصالات التي تُجريها دولة الاحتلال مع العديد من قيادات البلدان العربية خير دليل على أن قطار تجسيد "الحلم الصهيوني" قد انطلق، وعلينا كفلسطينيين أن نكون في رأس حربة لتحطيم هذا الحُلم النقيض لحقنا في تقرير مصيرنا المكفول في القانون الدولي.
لا يخفى على أحد بأن هذه الانتخابات تخص فقط سكان الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، أي بمعنى آخر هي انتخابات للسلطة الفلسطينية التي من المفترض أنها الذراع الإداري لمنظمة التحرير الفلسطينية لإدارة شؤون المواطنين في هذا الجزء من الأرض التي لا تزال فعليا أرضا محتلة، لذلك قلنا بأن هذه الانتخابات هي أول الغيث، وننتظر انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني الذي هو أعلى هيئة في المنظمة ويمثل كل الفلسطينيين في الوطن وفي الشتات.
نؤكد بأن هذه الانتخابات هي خطوة بالاتجاه الصحيح إذا ما أُحسن استثمارها كنموذج لبناء نظام سياسي قائم على مفهوم الشراكة السياسية التامة، وهي مدخل مهم لإنهاء الانقسام بطريقة ديمقراطية وليس على أساس المحاصصة وتقسيم "الكعكة"، وهي أيضا يمكن أن تكون مدخلا للنهوض بواقع منظمة التحرير الفلسطينية من خلال التوافق على شكل ما لإجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني اينما امكن، وكذلك فإن هذه الانتخابات تشكل فرصة مهمة لإعطاء الجيل الشاب الفرصة للمشاركة في الحياة السياسية لضخ طاقات ودماء جديدة في النظام السياسي الفلسطيني الذي أصابه الهرم وبضعا من التكلس.
إن عدم الاعلان عن إجراء انتخابات رئاسية بالتوازي مع إجراء الانتخابات التشريعية لا يجب أن يُشكل عائقا امام السير قدما نحو دمقرطة الحياة السياسية الفلسطينية برمتها، وبخاصة أن الأخ الرئيس التزم بإجراء الانتخابات الرئاسية بعد "بضعة أشهر" من انقضاء الانتخابات التشريعية، وقد يُفهم من ذلك أن هذه الفترة لن تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزيد عن تسعة، وهي فترة مقبولة ومعقولة، وعلينا جميعا أن نُحسِن النوايا ونُغَلب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الحزبية والفردية الضيقة.
قد يكون فتح حوار وطني ضمن مدة زمنية معلومة هو الطريق الأقصر والاسلم والافضل لتهيئة الأجواء الداخلية لإجراء الانتخابات والاتفاق على مُجمل القضايا ذات العلاقة، فالوضع الفلسطيني، بشكل عام، لا يحتمل مزيدا من التشتت والتشرذم والانقسامات، ولا نريد ولا يجب أن تكون الانتخابات سببا في تعميق الانقسامات، بل علينا أن نستخدم هذه الفرصة لاستعادة التوافق الوطني، ولوضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته في إجبار دولة الاحتلال على عدم اتخاذ أي سياسات أو إجراءات من شأنها أن تعيق إجراء الانتخابات في أي منطقة من المناطق الواقعة ضمن حدود العام 1967، بما فيها القدس الشرقية، بحكم أن القدس الشرقية هي جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية وفق ما أقرت به الشرعة الدولية ضمن "حل الدولتين"، الذي لا زالت منظمة التحرير الفلسطينية متمسكة به، ومن خلفها الأمم المتحدة والعدد الأكبر من دول العالم.
المهمة صعبة والطريق طويل والانتخابات التشريعية هي أول الغيث، ويجب أن يتبعها الانتخابات الرئاسية وانتخابات المجلس الوطني والتي هي حجر الزاوية في إعادة الحياة لهياكل ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، ولتعزيز مفهوم الشراكة السياسية الكاملة، والخروج من دائرة التفرد في القرار، وإعادة ثقة الفلسطيني بممثله الشرعي والوحيد وبهويته السياسية والمعنوية لأن من شأن ذلك أن يؤكد من جديد لكل العالم بأن الشعب الفلسطيني هو شعب واحد تمثله مؤسسة واحدة هي منظمة التحرير الفلسطينية.
إن انجاز ملف تجديد الشرعيات في جميع الهياكل التمثيلية للشعب الفلسطيني يشكل انجازا مهما ومطلوبا من أجل ترتيب باقي الملفات التي من شأنها أن تعزز صمود المواطن الفلسطيني على أرضه، وأيضا تُبقي الأمل وروح النضال عند فلسطينيي الشتات، وتعزز روح المقاومة وصولا إلى حقنا في تقرير المصير والعودة وبناء الدولة المستقلة على حدود الرابع من حزيران للعام 1967 بعاصمتها القدس الشرقية.
فهناك حاجة إلى معالجة الملف الاجتماعي من خلال إنجاز وتشغيل منظومة الحماية الاجتماعية المتكاملة، بما يشمل الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1967، وفي مخيمات الشتات عِبر الدائرة المختصة في منظمة التحرير. وأيضا معالجة الملف الاقتصادي من خلال القيام بسلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية من ضمنها تعزيز ودعم الاقتصاديات المحلية، وتغليب مصلحة المزارع واتخاذ سياسات وإجراءات حكومية لإبقائه محافظا على ارضه، واتخاذ سياسات اقتصادية تساعد في الانفكاك عن اقتصاد دولة الاحتلال، ولدينا العديد من الدراسات والأبحاث التي يمكن لها أن تُشكل أساسا لوضع خطة اقتصادية شاملة في هذا الاتجاه ولا شك أن معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) لديه القدرة والخبرة لوضع رؤية شاملة تتجاوب مع البرنامج الاقتصادي المطلوب والمتوافِق مع الطموحات السياسية للكل الفلسطيني.
وهناك ملف القدس التي تعاني من سياسات الاحتلال الهادفة إلى تهجير سكانها وتدجين ما يتبقى منهم، وهذا الملف بحاجة إلى متابعة حثيثة ومتواصلة وجهد يومي لا بل لحظي، وبحاجة إلى تسخير كل الامكانيات المادية والسياسية للحفاظ على هذه فلسطينية هذه المدينة، من خلال توفير الموارد المالية لإعمال الخطط الموضوعة لتعزيز صمودها، ومن خلال توحيد المرجعيات فيها، وهو امر مقدور عليه في حال تضافر الجهود المنظمة والحكومية مع القطاع الخاص الوطني وباقي مكونات المجتمع الأهلي، فلدينا من الخطط والدراسات ما هو كفيل بحماية عاصمتنا الأبدية. فالصراع على مدينة القدس تحديدا هو ليس صراعا دينا وسياسيا و"سياديا" فقط بل هو صراع على الرواية التاريخية وعلى الحق التاريخي للفلسطينيين بهذه المدينة.
لا يجب أن يغيب عن تفكيرنا بأن الكل الفلسطيني في خندق واحد، والجميع مستهدف من طرف الحركة الصهيونية، وهذا يحتم علينا تنحية خلافاتنا الداخلية وتوجيه كل تناقضاتنا نحو التناقض الرئيسي مع الاحتلال، وهذا ما حاول فعله والتأكيد عليه التجمع الوطني الفلسطيني من خلال عقده لاجتماع، قبل حوالي ثلاثة أسابيع، ضم مجموعة من السياسيين والأكاديميين، بتخصصات مختلفة، وممثلين عن التنظيمات والاحزاب الفلسطينية بمختلف مكوناتها، وعُرض خلال الاجتماع رؤى تناولت المواضيع المطروحة في هذا المقال. ونعتقد بأن الاوراق التي قُدمت يمكن لها أن تكون أساسا لحوار وطني شامل للخروج من وضعنا الخالي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فبقاء الأمور على حالها وعدم المبادرة في اتخاذ خطوات جادة ومدروسة لمواجهة التردي الحاصل سيقودنا جميعا نحو المجهول، وهذا ما لا يريده أحد، وكلنا أمل أن تكون الانتخابات التشريعية أول الغيث وخطوة نحو إعادة الامل لمجموع الشعب الفلسطيني.
إن جميعنا في خندق واحد ولنا مصير مشترك ولنا عدو واحد، والانتخابات مدخل أساسي وقد يكون الوحيد من أجل تعزيز هذه القناعات أو الحقائق، واستعادة الوحدة الوطنية وتجديد الشرعيات، وتعزيز صمود المواطن على الأرض، وإعادة ثقة المواطن بالقائمين على المشروع الوطني، وهذا حجر الأساس لمواجهة المشروع الصهيوني وصفقة القرن، وهذا الأمر يحتاج إلى أدوات وإلى موارد وإلى إرادة، وكل ذلك موجود وبحاجة إلى إعادة استنهاض وتعزيز يبدأ من المشاركة السياسية وعدم الاستفراد في القرارات واحترام الأنظمة والقوانين التي وضعتها منظمة التحرير الفلسطينية كأساس للعمل الجمعي المشترك، واعتقد بأن ما طرح في هذا المقال قد يشكل أساسا لبرنامج عمل وطني وحدوي، قائم على قاعدة المصلحة العامة وإعادة احياء للكيانية السياسية الفلسطينية على أسس ديمقراطية ركيزتها صندوق الاقتراع، وهذا الامر يتطلب حوار وطني جاد ومسؤول من قبل الجميع.