بقلم : فارس بن حزام
موقف ديبلوماسي عابر حدث قبل عامين، فخلال استراحة وزراء دول العالم الإسلامي في مؤتمر استضافته إسطنبول، كان الوزير السعودي عادل الجبير يتبادل أطراف الحديث مع نظيريه الأردني والفلسطيني، وتسلل إليهم وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، مصافحاً وفارضاً بلده ونفسه على الواقفين، وتتبعه كاميراته والوزير المستضيف مولود شاويش أوغلو. حافظ الجبير على ديبلوماسية رد الفعل بابتسامة وكلمات قليلة، ولم يمنح المتسلل فرصة إضافية لتسجيل نقاط على بلاده. أراد ظريف أن يبعث إلى العالم برسالة مرئية؛ إيران تنشد السلام، والسعودية تتعنت وترفض.
ذلك الموقف دأب الوزير جواد ظريف على تكراره صحافياً في مقابلات كثيرة، وكلما ضاقت على إيران، خرج داعياً للحوار مع السعودية، وفي عامنا هذا كررها أربع مرات، وفي مطلع السنة فعل الرئيس حسن روحاني الشيء نفسه. والخطاب لا يوجه إلى الداخل الإيراني، حيث تظهر القيادة قوتها أمام شعبها وعدم حاجتها إلى الرياض، بل يوجه إلى المحيط العربي وفي الغرب، وفي نيويورك تحديداً، وما ينقصه أنه يستخدم أدوات قديمة في ظل مشهد مختلف تماماً عن العقدين الماضيين.
العلاقة بين الرياض وطهران متذبذبة 40 عاماً، ولم يسبق أن عاشت رحلة سكون طويلة، ومنذ مطلع 2016، بالاعتداء على السفارة والقنصلية السعوديتين، انتقلت إلى القطيعة غير القابلة للإصلاح السريع، وقبلها سجلت حوادث فظيعة؛ اعتداءات داخل إيران، واغتالت ديبلوماسيين سعوديين خارجها، وعبثت بأمن الحج لسنوات، وملأت حقائب حجاجها المساكين بالمتفجرات، وفجرت شركات ومصانع في الجبيل ومقراً سكنياً في الخبر، واستضافت إرهابيي "القاعدة"، ووجهت بوصلتهم لضرب المدن السعودية، وشكلت ميليشيات وخلايا في المملكة وعلى حدودها.
ذلك من الماضي الممتد إلى اليوم للأسف، بينما جملة جواد ظريف ثابتة عند معنى واحد؛ نرغب بعلاقة جيدة، مستعدون للحوار، والسعودية ترفض. لكن على أي أسس يقوم الحوار؟ ذلك ما لم يفصح عنه الوزير مرة واحدة منذ القطيعة قبل ثلاثة أعوام ونصف. احتجاج الرياض واضح وصريح، ويقوم على مبادئ سياسية لا يختلف حولها أحد؛ احترام العهود والمواثيق الدولية، وإيقاف التدخل في شؤونها، وكذلك دعم الخلايا الإرهابية، علاوة على السعي إلى المس بأمنها من بوابة اليمن.
ومعلوم أن أي دولة جادة تنشد الحوار ترسل إشارات حسن نوايا، تمهد بها الطريق إلى السلام المنشود، لكن ذلك لم يحدث مرة واحدة طوال 43 شهراً، بل ذهبت إيران إلى أبعد من ذلك؛ كثفت تهريب السلاح ودعم المليشيات وإطلاق الصواريخ من اليمن، وربما من العراق، واعتدت على قوافل النفط في الخليج والبحر الأحمر، وهددت ديبلوماسيين سعوديين في دول عدة، وارتفع خطاب مرشدها وقادتها العسكريين إلى أقصى درجات التطرف ضد الرياض، وعجزت عن إرسال إشارة واحدة طيبة.
في عهدي الرئيسين علي هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، توترت العلاقات مع السعودية، ودخلت في أزمات عنيفة وخصومة، ولكن صدرت من الرئاستين إشارات جيدة صوبت المسار، على رغم أن المستقبل كشف كونها مراوغة وتضليلاً، وواصلت طهران من تحتها السلوك السيء، ومع ذلك عجز عهد الرئيس روحاني عن الاستفادة من سياسة رئيسين ينتميان إلى خطه الفكري ومنهجه الإداري، وجميعهم تحت مظلة المرشد علي خامنئي نفسه، وربما لتغول العسكريين أكثر في إيران، ولكن الأقرب أن السعودية أعلنت صراحة عبر ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان قبل عامين: "لدغنا مرة، ومرة ثانية لن نلدغ".