بقلم : رجب أبو سرية
يمكن اعتبار أن نتائج الجولتين الانتخابيتين الإسرائيليتين السابقتين واللتين جرتا خلال العام الماضي، كانتا سبباً مباشراً لإقدام إدارة البيت الأبيض على إعلان خطتها لحل القضية الفلسطينية، رغم أنها كانت تفضل أن يكون مثل ذلك الإعلان بعد إعلان واحدة من تلك الانتخابات، أو بالتحديد بعد تشكيل الحكومة الناجمة عنها، لكنها اضطرت طوال العام الماضي للتريث في انتظار انتخابات حاسمة، لم تحدث، ولأن كل المؤشرات تشير إلى أن الانتخابات التي ستجرى بعد عشرة أيام من اليوم، لن تختلف كثيراً، أو بمعنى أدق لن تأتي بنتيجة حاسمة مختلفة عن سابقتيها، لذا أقدم طاقم دونالد ترامب على إعلان الخطة قبل إجراء الانتخابات، وهذا ما يفسر إقدام الرئيس الأميركي على استدعاء المتنافسين على رئاسة الحكومة الإسرائيلية القادمة للبيت الأبيض، واطلاعهما معاً على تفاصيل تلك الخطة قبل إعلانها.
أي أن ترامب عينه على ما بعد الإعلان، وهذا أمر طبيعي، ولأنه هو ومعه إسرائيل بغالبيتها الساحقة لن يحتملا إجراء انتخابات رابعة غير حاسمة، فإننا لا نستبعد أن «يتدخل» ترامب في الشأن الداخلي الإسرائيلي، لدرجة أن يجبر المتنافسين_ مثلاً_ على الشراكة في حكومة وحدة وطنية، تشرع في تنفيذ خطته، فإذا كان اليمين الإسرائيلي والتطرف الإسرائيلي عموماً، الذي يشمل بعضاً من «حزب الجنرالات» أيضاً وجد في الإعلان هدية انتخابية له، فإن ترامب بحاجة إلى «التنفيذ» لتعود الهدية إليه بأصوات الناخبين في انتخابات الرئاسة الأميركية التي ستجري في شهر تشرين الثاني من هذا العام.
وحديث التنفيذ غير حديث الإعلان بالطبع، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه خلال كل الوقت الذي سبق الإعلان الرسمي عن الخطة، كان معدّوها يقومون إما من خلال مواقفهم وإعلاناتهم المرتبطة بمواقفهم الرسمية، أو بشكل مباشر، بالإشارة أو بالإيحاء لإطار الخطة العام أو خطوطها العريضة، لذا فقد وقفوا عند توقع الرفض الفلسطيني الرسمي والفصائلي والشعبي المؤكد، أي أنهم كانوا متأكدين من الرفض الفلسطيني المطلق للخطة فور إعلانها رسمياً، بل إنهم كانوا يعلمون بمقاطعة السلطة الرسمية والكل الفلسطيني لإدارة ترامب منذ أعلنت اعترافها بضم القدس المحتلة وبكونها عاصمة «موحدة» لإسرائيل، لذا فإن الخطوط العامة للخطة، وسيناريو التنفيذ أخذا بعين الاعتبار دون شك الموقف الفلسطيني الرافض، ومن الطبيعي أيضا أن تكون إدارة البيت الأبيض قد وضعت السيناريو المضاد لما ستقوم به السلطة كرد على الإعلان.
ما حدث إزاء اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل التي وقعها كل من الرئيس الراحل أنور السادات ورئيس حكومة إسرائيل الأسبق مناحيم بيغن برعاية الرئيس الديمقراطي الأميركي جيمي كارتر في العام 1978، والتي نصت على «حكم ذاتي فلسطيني» لم ينفذ رغم تنفيذ كل البنود الأخرى للاتفاقية، وذلك لعدم وجود طرف فلسطيني، حيث كانت م ت ف وما زالت بالطبع هي قائد الشعب الفلسطيني، للتقاطع أو التعامل مع تلك الاتفاقية، التي ووجهت بالرفض الفلسطيني والعربي في ذلك الوقت. أول ما يمكن توقعه هو أن «الرفض الفلسطيني» ستجعل إسرائيل منه مبرراً كي تشرع بتنفيذ خطة ترامب_نتنياهو، دون الالتزام حتى بالخطة نفسها، وهذا ما يفسر عدم ظهور صوت معارض أو منتقد أو رافض للخطة، خاصة على جبهة اليمين المتطرف، التي تحدثت عن «دولة فلسطينية» وعن إخلاء بعض المواقع الاستيطانية، إلى أن جاء توضيح السفير الأميركي/الصهيوني في تل أبيب دافيد فريدمان، حسب جريدة هآرتس أول من أمس، وخلال حديثه في أحد معاهد الأبحاث الإسرائيلية، حيث دعا للتمييز بين النص المعلن للخطة وبين «نص سري» بين ترامب ونتنياهو، لا يتضمن أصلاً أن تكون الخطة معروضة للتفاوض مع الجانب الفلسطيني!
على أنه ليس التنفيذ الميداني هو الذي يعني الجانبين الإسرائيلي والأميركي فقط، فهما على أي حال يشرعان في تنفيذ كل الإجراءات الاحتلالية غير الشرعية منذ عام 1967 وحتى الآن، ولم تلتزم إسرائيل مطلقاً باتفاقيات أوسلو طوال أكثر من ربع قرن مضى، لكنهما معنيتان بتشريع التطبيع الذي ما زال سرياً على أي حال بين إسرائيل وبعض الدول العربية، خاصة دول الخليج، حيث يعتبر نتنياهو ذلك «التطبيع» أحد أهم منجزاته السياسية على الإطلاق.
والحقيقة هي أن الوضع العربي هذه الأيام يشبه إلى حد كبير ما كان عليه حال العالم العربي عشية حرب العام 1948، حيث كانت هشاشة الجيوش العربية التي دخلت فلسطين أحد أهم أسباب حدوث النكبة وعدم التصدي لإعلان «قيام دولة إسرائيل» وكان ذلك سبباً في انطلاق عجلة حركة التحرر العربي، بإحداث الانقلابات العسكرية التي بدأت في مصر عام 1952 وتوالت لتشمل معظم الدول العربية، حيث تغيرت أنظمتها الموالية للغرب، إلى نظام الحكم الجمهوري الوطني، المعادي للغرب، ويقيناً بأن مشاركة النظام العربي الرسمي في «ضم القدس والضفة الغربية» لإسرائيل سيكون سبباً في إسقاط الأنظمة المستبدة، وفي إقامة وإشاعة نظام الحكم الديمقراطي الشعبي، الذي سيتصدى فعلا لعنصرية إسرائيل واحتلالها.
وهنا تكون المراهنة أيضاً وبالأساس على الشعب الفلسطيني، حيث كان بقاء نصف الشعب في وطنه هو ما أوقف المشروع الصهيوني عند حدوده الضيقة، لذا فإن بقاء الشعب الفلسطيني صامداً في أرضه ووطنه، هو الذي سيقف في وجه خطة الضم، وهو الذي سيلحق بمشروع «دولة إسرائيل الكبرى» اللاهوتية والاستعمارية الهزيمة الماحقة في المستقبل، فشاء الإسرائيليون أم أبوا لن يكون الصراع على الأرض، على أهميته، هو كل شيء، والتضييق على الشعب الفلسطيني جغرافياً، سيدفعه إلى التمدد في الفضاء السياسي، حيث وجدت دولة فلسطين فيه لتبقى، والصراع في مرحلة ما بعد الحرب الباردة مختلف بأدواته عما كان خلالها، وهذا ما يدركه الشعب الفلسطيني ويسجل فيه السبق كونه أبرز شعب ما زال تحت الاحتلال حتى اليوم، وهذا يعني بأن «الصفقة» حيث أشار فريدمان الى أنها تتضمن «صفقة بين ترامب ونتنياهو داخل الصفقة» هي الآن بين يدي الشعب الفلسطيني ليضعها في ورطة التنفيذ، حتى تكون «الورطة داخل أو في طريق الصفقة « وبين الأقوال والأفعال فعل مضاد وصراع ميداني لم يُحسم بعد.