ربّما يكون لقاء القمّة الذي من المُتوقّع عقده يوم الأربعاء المُقبل، بوساطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بين الرئيس المِصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، على هامش القمّة الروسيّة الإفريقيّة في مُنتجع سوتشي، هو الفُرصة الأخيرة لحل الأزمة المُتفاقمة بين بلديهما حول سد النّهضة وتفرّعاته، مع اقتراب بنائه (جرى إنجاز 66 بالمِئة من هذه العمليّة) والبِدء في مِلء خزّاناته بالمِياه (70 مِليار متر مكعّب)، والفترة الزمنيّة مَوضِع الخِلاف الأكبر حاليًّا.
قنوات الحِوار بين الجانبين المِصري والإثيوبي مُغلقةٌ حاليًّا، بعد وصول الاجتماع الوزاري الثّلاثي بين الدول المعنيّة (مِصر والسودان وإثيوبيا) إلى طريقٍ مسدود، ورفض الطّرف الأمريكيّ التدخّل للتوسّط بطَلبٍ رسميٍّ، فالجانب الإثيوبي يتمسّك بموقفه بمِلء خزّان السّد في غُضون خمس سنوات، وحصر كميّة المِياه المُتدفّقة في النّيل في حُدود 35 مِليار متر مكعّب أثنائها، الأمر الذي يتعارض مع طلب مِصر الذي يُصِر على أن تكون الفترة سبع سنوات، مع كميّة سنويّة من المِياه في حُدود 40 مِليار لتجنيب مِصر كارثة المَجاعة وفقر المِياه.
التَّصلُّب في الموقف الإثيوبي انعكس مُجدّدًا في رفضِ طلبٍ تِقنيٍّ آخر لمِصر بتواجد مكتب يَضُم خُبراء مِصريين بجِوار مُنشآت السّد لمُتابعة عمليّات البِناء النهائيّة ومَلء الخزّان، حيثُ اعتبرته الحُكومة الإثيوبيّة انتِقاصًا من سِيادتها، وأعلنت في الوقت نفسه إغلاق الأبواب في وجه أيّ وِساطات خارجيّة، وحصْر الأمر في الدّول الثّلاث المَعنيّة فقط، ولجنة الخُبراء المُستقلّة التي جرى تأسيسها.
الغضب المِصريّ وصَل ذروته عندما أعلن السيّد سيليتشي بيكيلي، وزير المِياه الإثيوبي، رفض حُكومته لجميع المطالب المِصريّة الأُخرى مِثل طُول الفترة الزمنيّة لمِلء الخزّان، وكميّة المِياه المُتدفّقة في النّيل أثناء بِدء هذه العمليّة، أيّ 40 مِليار متر مُكعّب، وارتفاع عُمقها بمِقدار 165 مِتْرًا فوق سطح البحر في السّد العالي، والأكثر من ذلك الحديث عن أنّ مِياه النّيل الأزرق الذي يُشكّل 90 بالمِئة من مجموع حجم مِياه النّيل تَنبُع من المُرتفعات الإثيوبيّة، وهي التي تملُك اليَد العُليا في هذا الصّدد.
الإثيوبيّون يقولون إنّهم لا يبنون هذا السّد من أجل حِرمان مِصر من حصّتها من المِياه التي حدّدتها مُعاهدة عام 1959 وتُقدّر بحواليّ 55.5 مِليار مِتر مُكعّب سَنويًّا، أيّ ما يُعادل 87 بالمِئة من مِياه النّيل، مُقابل 18.5 مِليار متر مكعّب للسودان، وإنّما لتوليد الكهرباء وسد حاجة البِلاد المُلحّة في هذا المَيدان، حيثُ يعيش 66 بالمِئة من مُواطنيها بُدون كهرباء، وهي ثالث أعلى نسبة في العالم، حسب إحصاءات البنك الدولي، ويُؤكّدون أنّهم لم يكونوا طَرَفًا فيها، وبالتّالي غير مُلزَمين بها.
الحُكومة المِصريّة تُواجه عدّة تحدّيات رئيسيّة في تعاطيها مع هذه الأزَمة، إلى جانب العِناد الإثيوبي:
الأوّل: أنّ الطّرف السوداني الثّالث بات أقرب إلى وجهة النّظر الإثيوبيّة في ظِل العهد الحالي، لأنّ السّلطات السودانيّة الجديدة تُقيم علاقات قويّة مع إثيوبيا، والرئيس آبي أحمد الذي كان له دور كبير في تحقيق التّوافق بين الجيش والحِراك المدني السوداني والوصول إلى الحل، ولأنّها حصَلت على تعهّد من إثيوبيا على الحِفاظ على حصّتها من المِياه دون نقص، مُضافًا إلى ذلك، وَعدًا آخر بسد احتياجاتها من الكهرباء بأسعارٍ مُخفّضةٍ بعد تشغيل سد النّهضة، وقال لنا مسؤولٌ في العهد السودانيّ الجديد طلب عدم ذكر اسمه، إنّ السودان يُؤمِن بالمصالح والتخلّي عن الشّعارات، وبات يتّجه أكثر إلى الحاضنة الإفريقيّة بشَكلٍ مُتسارعٍ والابتعاد تَدريجيًّا عن الأزَمات العربيّة وجامعتها.
الثاني: تَعذُّر اللّجوء إلى محكمة العدل الدوليّة لحل هذا النّزاع قانونيًّا، لأنّ الذّهاب إلى المحكمة يتطلّب مُوافقة الطّرفين، وإثيوبيا تَرفُض هذا الخِيار، ممّا يعني البَحث عن وسطاء كبَديل.
الثالث: التِزام مُعظم “أصدقاء” الرئيس السيسي في إفريقيا، ودول الخليج مَبدأ “الحِياد” في هذه الأزَمة، خَوفًا على استثماراتها الضّخمة في إثيوبيا، ونحنُ نتحدّث هُنا عن السعوديّة ودولة الإمارات خِصّيصًا، وربّما هذا ما يُفسِّر “البُرود” في العلاقات المِصريّة معها هذه الأيّام.
الرابع: الدور الإسرائيلي المُحرِّض ضِد مِصر، والدّاعم الأساسي للمِلف الإثيوبي في هذا الصّدد، فإسرائيل نصَبت منظومة دفاعات صاروخيّة جويّة من طِراز “سبايدر” في مُحيط سدّ النّهضة لحِمايته من أيّ هُجوم مِصري في حالِ تدهور العُلاقات واللُّجوء المِصري للخِيار العسكريّ.
من حق مِصر أن تعتبر مِياه النّيل مسألة حياةٍ أو موت، والرئيس السيسي في آخِر تصريحاته هدّد بأنّ جميع الخِيارات مفتوحة، وظهَرت أصوات قويّة في مِصر تُطالب بتدمير سد النّهضة إذا تعرّضت حِصّة مِصر من المِياه إلى أيّ ضرر، لأنّ 90 بالمِئة من مصادر مِياههم من النّيل، وأنّ 90 بالمِئة من أرضهم صَحراء قاحِلة.
صحيح أنّ مُعظم مياه النّيل تأتي من مُرتفعات إثيوبيا، ولكنّ الصّحيح المُثبَت أيضًا أنّ النّيل بمساره الحاليّ كان مَوجودًا قبل ظُهور الإنسان بملايين القُرون، ونَقص أيّ نُقطة من مِياهه ستُعوّض بالدّم مِثلما ذكر أكثر من مَسؤولٍ مِصريٍّ، سواء في جلَساتٍ خاصّةٍ، أو تصريحات علنيّة.
مِياه النّيل كانت دائمًا إرثًا مِصريًّا مُقدّسًا ومُنذ عهد الفراعنة، حتى أنّ محمد علي، مُؤسّس مِصر الحديثة، شكّل وحَدات تدخّل سريع للتدخّل العسكريّ ضِد أيّ مُحاولة إثيوبيّة للمَس بحصّة مِصر ومصدر رِزق فلّاحيها.
المَعلومات المُتوفّرة لدينا تقول إنّ السّلطات المِصريّة طلبت من السودان والسودان الجنوبي إقامة قواعد جويّة على أراضيهما لاستخدامها إذا لَزِمَ الأمر، وتَعذّر الحل السياسيّ، ولكن إجابة الدّولتين لم تَكُن إيجابيّة.
تظل هُناك أوراق عديدة في يد مِصر تلوح بها حاليًّا، مِثل توثيق العلاقات بشكلٍ أكبر مع إريتريا والصومال، ومد الجُسور مع مُعارضي إثيوبيا في إقليم أوغادين الإثيوبي الصّومالي والحركة الانفصاليّة فيه، وحتى المُعارضين داخِل إثيوبيا نفسها.
نأمَل أن لا تتطوّر الأُمور إلى المُواجهة العسكريّة، وأن يتم التوصّل إلى حلٍّ وسَط “تقنيّ” يُرضي الطّرفين المِصري والإثيوبي، ولعلّ وِساطة الرئيس بوتين المُنتظرة تكون القادِرة على تحقيق هذا الإنجاز.
العدو الحقيقي لمِصر الذي يُحاصرها في إفريقيا ووقف مُنذ اللّحظة الأولى خلف مشروع سد النهضة هو دولة الاحتلال الإسرائيلي الذي انتقل إلى خانة الأصدقاء مُؤخّرًا، فالخُبراء الإسرائيليّون هُم الذين وضعوا خرائطه، ودراساته، وساعدوا في تمويله بطُرقٍ مُباشرةٍ أو غير مُباشرة، ويُريدون تحقيق حُلمهم في الحُصول على حصّتهم من مِياه النّيل لحل أزمة المِياه التي يعيشونها في فِلسطين المُحتلّة، وهو مشروع انتقل من دائرة الهمس إلى المُجاهرة.
السّلطات المِصريّة يجِب أن تستعد للأسوأ، وأن تعرف من هُم أعداؤها ومن هُم أصدقاؤها الذين خَذلوها، وأن تُعزِّز جبهتها الداخليّة، ووحدتها الوطنيّة، وتتّجه إلى مُصالحات وإصلاحات باتت حتميّة، وهذه السّلطات تعرِف ماذا نقصد، ولا نُريد التّكرار، فمَصلحة مِصر واستقرارها ورَخاء شعبها يجب أن يتقدّم على كُل الأُمور الأُخرى.
حرب المياه في الشّرق الأوسط، وربّما مناطق أُخرى من العالم اقتربت، ونأمل أن لا تكون الأُولى بين العرب والأحباش، وبتحريضٍ وتخطيطٍ إسرائيليٍّ.. والأيّام بيننا.