لم تكن قمة هلسنكي، التي عقدت بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، الإثنين الماضي، حدثاً عادياً بالنظر إلى حجم الملفات الكبيرة التي تزدحم بالخلافات بين المتنافسَين، الأميركي والروسي، اللذين يوسّعان نفوذهما في العالم.
يجوز القول على لقاء هلسنكي: إنه قمة الأولويات، خاصةً أن الرئيسين تحدثا في ملفات وموضوعات تهمهما ويعتبرانها تحظى بالأولوية وتشكل صلب مصالحهما، في الوقت الذي غابت فيه ملفات أخرى، مثل ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
أكثر ما اهتم به ترامب وبوتين هو تأمين إسرائيل وضمان احتلالها الجولان استناداً إلى اتفاق 1974 الذي يقضي بفصل القوات السورية والإسرائيلية، وفي المؤتمر الصحافي بدا أن الرئيس الروسي يؤكد موقف بلاده الثابت إزاء دعم إسرائيل والحفاظ على أمنها.
أيضاً أثنى ترامب على حديث بوتين حول ضرورة تفهم احتياجات إسرائيل الأمنية، دون التطرق إلى آفاق حل الأزمة السورية ومصير القوات الأميركية والروسية هناك، الأمر الذي يؤكد بما لا يدعو للشك وجود ضمانات أميركية وروسية حول تفهم احتياجات إسرائيل الأمنية قبل وبعد أن تضع الحرب أوزارها في سورية.
رسالة بوتين لإسرائيل هي أيضاً رسالة موجهة للنظام السوري بأن على الأخير القبول ببقاء الوضع كما كان سابقاً قبل نزاع 2011، وهذا يعني أن على القوات الحكومية السورية التي تفتح حرباً على المعارضة بمختلف أشكالها في الجنوب والجنوب الغربي، عليها أن تكون حذرة في مسألة التعامل مع المناطق «المحرمة» التي ترى فيها إسرائيل خطراً يتهددها.
بعيد قمة هلسنكي، فهم النظام السوري رسالة بوتين، وجرى نقل معدات عسكرية ثقيلة من القنيطرة، وكأن النظام السوري يطمئن إسرائيل بأنه غير معني بتصعيد الحرب ولا يريد فتح جبهة من القتال، وكل أولوياته تقضي بالقضاء على الفرقاء المحليين.
كان واضحاً، في المؤتمر الصحافي، أن ترامب معجب بنظيره بوتين الذي اتضح أنه أكثر توفيقاً في طرح مواقفه وإدارة الخلاف مع واشنطن، وبدا للمتابعين أن الرئيس الروسي يتصرف باعتباره رجل دولة، عكس نظيره الأميركي الذي يتعامل كرجل أعمال.
وفي حين حضرت ملفات، مثل: الكوري الشمالي والإيراني والأوكراني، فإن ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي غاب تماماً عن القمة، ويمكن تفسير هذا الغياب المقصود الذي ترى فيه إسرائيل أمراً مفيداً ويصب في مصلحتها.
لعل أول تفسير لغياب هذا الملف يتصل بالحديث عن الأولويات، وعلى اعتبار أن الملفات التي جرى عرضها في الأعلى تندرج في إطار الربح والخسارة والتحديات الاقتصادية والأمنية التي تواجه الطرفين الأميركي والروسي في كيفية إدارتها.
بطبيعية الحال، ترى روسيا في الملف السوري والأوكراني عنوان مصالحها الإستراتيجية، وكذلك الحال بالنسبة للملفين الكوري الشمالي والإيراني، ذلك أن سورية تعطيها ميزة التأكيد على نفوذها في الشرق الأوسط.
أما أوكرانيا فتشكل الحديقة الخلفية لروسيا التي لا تقبل بالمطلق إذابتها في الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي، وموسكو تنظر بقلق شديد إلى سعي الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين لجهة تكتيفها جغرافياً واقتصادياً وأمنياً.
وبالنسبة لملفات كوريا الشمالية وإيران فهي «كُروتٌ» مفيدة لموسكو ضد واشنطن، إلى جانب أن الشراكة مع مثل هذه الدول وفي مقدمتها الصين، تدر أرباحاً لروسيا التي تعمل بقوة على توسيع حضورها الدولي من نافذة توسيع قاعدتها الاقتصادية.
ثم إن غياب ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي يعتمد على المردود من الكلف المترتبة عليه، فعلى سبيل المثال: ماذا تستفيد روسيا من التركيز على هذا الملف، في الوقت الذي تدرك فيه أن أرباحها من حسن العلاقة مع إسرائيل أكثر بكثير من سوئها والوقوف إلى الجانب الفلسطيني؟
العلاقات الإسرائيلية- الروسية في أفضل حالاتها، ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي زار موسكو كثيراً خلال العامين السابقين، يرى في الشراكة مع روسيا مصلحة للإبقاء على التفوق العسكري الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط.
وصحيح أن حجم التجارة بين البلدين ضعيف، لكنه يصل إلى حوالى 3 مليارات دولار، وهو في طور النمو والتحسن مع فتح قنوات للشراكات الاقتصادية والأمنية، لكن الأهم في الموضوع أن هناك ما يزيد على المليون ونصف المليون سائح روسي يزورون إسرائيل سنوياً.
التاريخ يشهد أن الاتحاد السوفياتي الذي ورثته روسيا كان من أوائل الدول في العالم التي اعترفت بإسرائيل بعد إعلانها دولة مستقلة عام 1948، في الوقت الذي حافظت فيه تل أبيب على العلاقة مع روسيا بأن رفضت الاعتراف باستقلال كوسوفو، حتى أنها لم تدن الأولى التي ضمت شبه جزيرة القرم عام 2014.
بوتين لم يجامل نظيره ترامب حين تحدث بكل صراحة عن توتر العلاقات بين البلدين، وأنه يبحث عن مصالح بلاده، وأنه ينظر إلى نجاح العلاقات الثنائية بمقدار المصالح المشتركة، ولذلك هو ليس معنياً بطرح الملف الفلسطيني؛ لأنه حينذاك سيلقى استياءً شديداً من جانب الإدارة الأميركية حامية إسرائيل، ومن جانب نتنياهو الذي يفهم جيداً أن لروسيا مصلحة في تقليل أعدائها.
إذا كان الفلسطينيون يريدون بالفعل تصدر ملفهم ضمن الملفات الدولية الساخنة، فإن عليهم الكف عن العبث في إدارة الانقسام الداخلي ومخاطبة العالم باللغة التي يفهمها وليس بلغتهم، لأنهم مع الأسف لا يملكون من وسائل الضغط والتأثير الكثير وكما يقول المثل: «الحاجة أمّ الاختراع»، ولأننا سلطة دون سلطة واقتصاد هزيل دون أي قاعدة إنتاجية ويعتمد أغلب الوقت على المعونات والدعم الخارجي، فإن علينا إثارة انتباه العالم إلى قضيتنا العادلة، بأننا شعب لا يزال يرزح تحت الاحتلال، كيف ذلك؟
نحتاج إلى دبلوماسية دسمة ومتوازنة غير محسوبة على هذه الدولة أو تلك، ونحتاج إلى البقاء كل الوقت على الحياد، كما نحتاج إلى حركة فلسطينية دائمة تُنبّه العالم إلى مدى عنصرية الاحتلال وجرائمه اليومية، والأهم وحدة وطنية تشكل عنواناً للصمود في مواجهة المخططات الإسرائيلية التصفوية.
المصدر :جريدة الأيام