لا مجال للحديث في هذه الأوقات عن جدية أي مسار سياسي في ظل تصاعد النزاع السوري وضغط الوجود الأجنبي الذي يهدد بقوة وحدة الأراضي السورية، والذي لا يهمه سوى تأمين مصالحه الحيوية بصرف النظر عن أي اعتبار آخر.
المبعوث الدولي الخاص إلى سورية ستيفان دي مستورا لخّص ما يجري من أحداث متسارعة تمثل لحظة خطيرة في قاموس النزاع السوري، إذ اعتبره الأسوأ منذ خمسة أعوام في ظل قصف القوات الحكومية مواقع المعارضة السورية بمحافظة إدلب، فضلاً عن تزايد التدخل الأجنبي في سورية.
هذا التصعيد الأجنبي الخطير في سورية مؤخراً، مرده إلى سعي بعض القوى الدولية لتغيير قواعد اللعبة، خصوصاً بعد الاختراق العسكري الذي حققته القوات الحكومية السورية في محيط إدلب، وسط حديث عن تراجع الدور العسكري للمعارضة.
الولايات المتحدة التي لديها وجود عسكري في سورية، لا ترغب في ترك هذا البلد لروسيا وإيران، ولديها شريك سوري محلي لم تتوقف عن دعمه حتى إذا أدى ذلك إلى فتور علاقتها مع تركيا التي لا تطيق الوجود الكردي في شمال سورية.
عن تغيير قواعد اللعبة يمكن القول في هذا الإطار: إن واشنطن استهدفت حديثاً دبابة تابعة للقوات الحكومية السورية، وهذه الضربة هي الثانية في غضون أسبوع استهدفت فيها قوات موالية للحكومة السورية قرب دير الزور.
هذا الاستهداف تزامن مع تصريحات لوزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون قال فيها: إن بلاده لم تقض تماماً على تنظيم «داعش» الإرهابي، ومثل هذا التصريح يفسّر على أن الولايات المتحدة الأميركية باقية في سورية إلى أجل غير مسمى.
أساساً كان قد ألمح تيلرسون إلى أن بلاده ستبقى في سورية حتى بعد القضاء على «داعش»، ويبدو أن هدف البقاء مرتبط بعدة أمور، أولها تمكين وحدات حماية الشعب من بسط سيطرتها في شمال سورية، تحديداً في الضفة الشرقية لنهر الفرات.
سبق أن طمأنت الولايات المتحدة تركيا بأنها لن تقدم الدعم لوحدات حماية الشعب الكردية، لكن ميزانية وزارة الدفاع الأميركية للعام 2019 خصصت مبلغ يتجاوز النصف مليار دولار لما أسمته دعم المناطق المحررة في شمال سورية.
هذه الميزانية ستذهب لإقواء الوجود الكردي في شمال سورية، إذ يتناهى لدى الكثير من المراقبين والمتابعين للشأن السوري أن الولايات المتحدة تريد إيجاد كيان كردي يتمتع بالاستقلالية والقوة، ويشكل نموذجاً للتحول إلى دولة مستقلة.
على أن تركيا غاضبة جداً من الموقف الأميركي في التعامل مع المسألة الكردية، ويهدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه قد يعطي الأوامر لقواته بالتوغل صوب منبج بعد عفرين السورية حيث العملية التركية الحالية «غصون الزيتون».
الأمر الآخر متعلق بالقلق الأميركي من الوجود الإيراني في سورية، ذلك أن واشنطن أبدت انزعاجها من هذا الوجود ورأت في حادثة إسقاط الطائرة الإسرائيلية من طراز «أف 16» عملاً مدبراً من قبل الإيرانيين، وأنه آن الأوان لهم للخروج من سورية.
ويجوز القول: إن حادثة إسقاط الطائرة الإسرائيلية فتحت الباب أمام تغير قواعد اللعبة، من حيث أن إسرائيل ستقيم ألف حساب لمسألة ضرب منشآت سورية، خصوصاً أنها كانت تصول وتجول بطائراتها في سورية وسبق لها أن قصفت مواقع بالقرب من دمشق.
حالياً تتعامل القوات الحكومية السورية مع الأخطار الأمنية وفق ترتيب الأولويات، إذ ترى أن مبعث القلق بالنسبة لها يتصل في ضرورة القضاء على المعارضة السورية المعتدلة، واقتلاعها من الجذور، والإبقاء على أصوات من المعارضة لا تمتلك أي تأثير عسكري.
ويبدو أن موسكو أيضاً تسير في هذا الإطار، لأن الرغبة عند الروس والسوريين تتعلق بعدم فتح جبهات تعرقل إستراتيجية تقليل الأعداء، ولذلك فإن المسعى المستقبلي من المرجح أنه سيذهب إلى السؤال حول ماهية الدور الأميركي وكذلك الحال الكردي.
تعدد القوى الأجنبية في سورية وتصاعد حدة الخلاف بينها لن يجر إلى حرب واسعة، لأن القوى الدولية تدرك مدى خطورة الاشتباك المباشر، لكنها بالتأكيد ستفعل المستحيل من أجل تحقيق الحد الأدنى من مصالحها ولعل تعقد النزاع العسكري السوري بهذه الطريقة ينذر بتعقد المسار السياسي أكثر فأكثر، ومن شأن كل ذلك أن يعني بالضرورة تباطؤ حل الأزمة السورية التي لا يبدو أن الأطراف الدولية جاهزة بعد لحلها، إذ يجوز أن مستقبل سورية خاضع للكثير من الاحتمالات.
المشكلة أن أكبر خطر يتهدد سورية يتمثل في عقدة الوجود الأجنبي، لأن الدول المؤثرة في النزاع السوري لو رفعت أيديها عن سورية لكان النزاع انتهى منذ فترة طويلة، غير أن هذه الدول التي تصول وتجول في الملعب السوري هي وحدها من أطال عمر النزاع.
سورية والدول العربية كلها خاسرة من هذا النزاع الطويل والمعقد، فهي لم تكن أصلاً في حسابات الدول الكبرى المؤثرة في النزاع السوري، لأن هدف تلك الدول كل الوقت تفتيت المفكك كما حصل في الحربين العالميتين الأولى والثانية.