من المهم كثيراً الانتباه إلى تقرير جديد للأمم المتحدة، يسلط الضوء على الأوضاع الكارثية التي يعيشها الفلسطينيون في قطاع غزة، بعد عشرة أعوام على سيطرة حركة "حماس" على القطاع، واعتباره بالفعل غير صالح للحياة.
هذا التقرير الحديث سبقه تقرير آخر صدر في العام 2012 يحذر من أن القطاع على مقربة مع كارثة كبيرة تؤدي إلى انتهاء صلاحيته بحلول العام 2020، غير أن كثرة الأحداث في غزة والتداعيات الخطيرة التي أفرزها الانقسام الداخلي والحصارين الدولي والإسرائيلي، كانت كفيلة باستعجال تدهور القطاع ودخوله في نفق مظلم.
بشهادة الأمم المتحدة وفريقها المختص لمعاينة وضع قطاع غزة، لم تعد الحياة ممكنة في هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة التي يسكنها حوالى مليوني فلسطيني، في ظل تقاطع شديد في المصالح الحزبية والفصائلية وتأثيره الخطير على أهل القطاع.
اللافت للنظر أن التقرير صدر بعد عشرة أعوام على سيطرة "حماس" على قطاع غزة، هذه السيطرة التي أدت إلى تحول كارثي في طبيعة العلاقات الفلسطينية الداخلية، زاد في ظل لعب الاحتلال الإسرائيلي على خط التناقضات الفلسطينية.
في هذا الحصار غير المبرر ضد الفلسطينيين الكل يتحمل مسؤولية ما يجري هناك، نعم "حماس" تتحمل المسؤولية و"فتح" والسلطة الفلسطينية تتحمل المسؤولية أيضاً، والاحتلال يتحمل المسؤولية الأساسية، وكل دول العالم بما فيها الدول العربية تتحمل مسؤولية ما يحدث لهذا القطاع الذي لا تتجاوز مساحته 365 كيلومتراً مربعاً.
نتيجة غياب المجتمع الدولي عن القيام بواجباته إزاء ضمان حقوق الإنسان، حدث تراجع كبير في الحياة المدنية والإنسانية في قطاع غزة، ونتيجة الانقسام الفلسطيني الداخلي حدث تشوه في العلاقات الاجتماعية وهذا النسيج الذي كان فيما مضى أكثر ترابطاً وحرصاً على وحدة الدم.
نتيجة الدور الإسرائيلي العنصري والقذر لصالح إبعاد قطاع غزة عن عمقها السياسي والجغرافي لفلسطين، ونتيجة حروب عدوانية خطيرة أخذت معها الأخضر واليابس هناك، حدث أن يشعر الفلسطينيون بأنهم في سجن صغير يضيق على أنفاسهم، غير قادرين على التواصل مع العالم الخارجي ولا حتى مع محيطهم وعمقهم الفلسطيني.
بعد عشر سنوات ماذا حدث؟ كان يفترض من دول العالم والأمم المتحدة الاجتهاد في تخفيف المعاناة على الفلسطينيين، وأن يترجموا بالفعل تخوفاتهم وما تعكسه التقارير في تحسين حياة الناس هناك، وكان يفترض أيضاً من أصحاب الانقسام أن يعودوا عن هذه الأفعال الصبيانية.
هذا لم يحدث بطبيعة الحال، إذ بخلاصة عاجلة وبتقديم فاتورة عن الوضع الراهن في قطاع غزة، سنشهد أن الطرف الوحيد المتضرر من هذا الوضع هم الفلسطينيون في غزة، لا حركة "حماس" التي تعتبر ركيزة الانقسام الفلسطيني ولا السلطة الفلسطينية التي لم تُحسِن حقيقةً إدارة ملف الانقسام.
العالم قطع أشواطاً سريعة في التطور والحداثة، واستلهام أفكار جريئة تقدم حلولاً لمشكلات الطاقة التقليدية، سواء باستخدام الطاقة الشمسية والمتجددة أو عبر الرياح أو المياه... إلخ، ولم يعد يسمع عن مشكلات تتصل بقطع الكهرباء في الكثير من دوله، في الوقت الذي تنقطع فيه عن غزة أكثر من 20 ساعة في اليوم، ما يعني أن انقطاعها هو الأساس ووجودها هو الاستثناء.
نتيجة هذا الانقطاع شبه الدائم للكهرباء لأسباب معروفة للجميع وهي أسباب بشرية لا طبيعية، بات الكثير من الثلاجات مخازن ورفوف للأحذية والأدوات المنزلية، بدلاً من أن تكون مستودعاً للفواكه والخضروات و"مونة" المأكولات.
الأدوات الكهربائية لا يمكنها أن تتعايش مع التغيرات السريعة في عمليات القطع والتشغيل للكهرباء، فلم تتحول الثلاجات إلى هذه الوظيفة فحسب، بل إن الغسالات تقوم بهذا الدور التمويني أيضاً، وهناك تلفزيونات وأدوات كهربائية تلفت وتحولت إلى التقاعد الإجباري عديم الجدوى.
ولأن الحياة عموماً مرتبطة بالكهرباء، فقد أدى هذا الخلل إلى تأثر شبكة الإنترنت، هذه الشبكة التي تعتبر متنفساً يومياً ومهماً لأغلب الفلسطينيين في غزة، خاصةً وأنها مصدرهم الرئيس اليومي في استكمال العلاقات الاجتماعية والحصول على وجبة دسمة من آخر ما تجود به نشرات الأخبار.
كل شيء تضرر في غزة، حتى أن الماء بات شحيحاً وغير نقي ولم يعد صالحاً للشرب والاستهلاك الآدمي، وليس بشهادتي "ولا من دار أبوي" وإنما بشهادة الأمم المتحدة أن 95% من المياه في غزة غير صالحة للشرب، وهذا يترتب عليه أمراض وارتفاع في فاتورة الصحة العامة.
طبعاً عدا الأمراض المزمنة وارتفاع وانخفاض الضغط وأنواع السرطانات التي تحصد الكبير والصغير بسبب الاضطراب الشديد في حالة الانسجام مع مثل هذه الأوضاع المعيشية المتردية وتزايد أنواع القلق، ومخاطر صحية بيئية أخرى.
خبراء الأمم المتحدة أكدوا، بعد صدور التقرير، أن نقص الكهرباء عمّق الأزمة الإنسانية في القطاع، وهذا لم يأت من فراغ لأن هذا المورد من أهم الموارد المهمة في حياة كل الناس في العالم.
الفلسطيني تضرر من هذا الانقطاع اليومي للكهرباء، والخدمات تتدهور من سيئ إلى أسوأ، ومياه الصرف الصحي "المجاري" تسبح مع الناس في شواطئ قطاع غزة، وكل هذا ولم نسمع أن أي جهة تتحرك لفرملة ما يحدث من انتهاكات جسيمة تؤثر على حياة الفلسطينيين.
وفوق كل هذا، لا يوجد شيء اسمه اقتصاد فلسطيني ولا يوجد شيء اسمه حرية حركة أو مرونة في الحركة لأن المعابر مغلقة أغلب العام، والبطالة متفشية، خصوصاً في صفوف الشباب وهي تتجاوز حاجز 60%، ومع ذلك مطلوب من الفلسطينيين أن يشدوا الحزام وأن يتفهموا محاذير الانقسام الداخلي.
فصائل الانقسام الداخلي بصريح العبارة أدارت ظهرها للفلسطينيين، فهي ليست في "بوز المدفع" مثلهم، ولا تشعر "بالفلقة" كما يشعر هؤلاء، ولذلك سوف لن تكترث أو تتحرك لإنهاء الانقسام طالما وأن الفلسطينيين ساكتون وصابرون ومرابطون.
صلاحية غزة انتهت بالفعل، ولا أي فلسطيني بسلاح الصبر أو دونه يستطيع أن يتعايش مع هذا الوضع الصعب، وعليه إما أن يبلع هذا "الموس" ويقبل بمصيره إلى أن يأتي الفرج من عند الله، أو يتحرك على عجل لوقف هذه الصناعة الإنسانية بامتياز.
لا المجتمع الدولي ولا الأمم المتحدة ستتحرك طالما سكت الفلسطينيون في غزة عن حقوقهم، والأولى أن يصححوا مسيرة حياتهم بأيديهم ويحاسبوا أصحاب الانقسام على الإجراءات المتبادلة التي تطال الفلسطيني قبل كل شيء.
"أبغض الحلال عند الله الطلاق" هذه الجملة تنسجم مع الرخصة المحللة للفلسطينيين فيما ينبغي أن يقوموا به لتجنب الشرور، فإذا كان أصحاب الانقسام من "أهل الكهف"، أفلا ينبغي أن يقول الفلسطيني كلمته طالما وأنه مصدر السلطات ووحده من يُنصّب الكبير والحزبي والفصيل ويطيح ذاك؟ إذا كان هذا هو الحال فهل من المحال تغيير الحال؟