لا تنفك القيادة التركية توجّه تهديدات بشأن التحرك العسكري صوب منبج السورية، التي يفصل بينها وبين عفرين في الشمال أقل من 150 كيلومتراً بقليل، غير أن هذه الرسائل تنطوي على أبعاد متنوعة، خصوصاً أن منبج تقع تحت سيطرة الأميركيين والأكراد.
سؤال التحرك التركي إلى مدينة عفرين والسيطرة عليها بعد حوالى شهرين من القتال المتواصل مع الأكراد هناك، يرجع إلى رغبة القيادة التركية في صياغة المشهد السوري وفق المصالح التركية الإستراتيجية، وهذا بدأ منذ أوائل النزاع السوري عام 2011.
تركيا حاولت ممارسة نفوذ إقليمي في سورية بهدف تعظيم حضورها في المشهدين الإقليمي والعالمي، فضلاً عن تأمين حدودها مع جيرانها العرب وفي القلب منهم سورية، لكن التدخلين الروسي والأميركي في النزاع السوري جعلا مهمة تركيا صعبة للغاية.
من ذلك على سبيل المثال أن الحكومة التركية نادت ليلاً نهاراً بضرورة إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري تهدف إلى حصر مسألة التدفق الديموغرافي في تلك المنطقة، وبالتالي فرملة لجوء السوريين إلى تركيا. إنما الهدف الأساس من إقامة هذه المنطقة هو منع أي وجود كردي مسلح في الشمال السوري، وضبط الحدود بطريقة حديدية تمنع التواصل الكردي في شقه السوري مع الآخر التركي.
أنقرة التي دخلت في علاقات صعبة مع روسيا على خلفية حادثة طائرة السوخوي التي أسقطتها الدفاعات التركية فوق السماء السورية، عادت تفكر أن وقوفها في عداوة مع موسكو لن يجلب لها المنفعة وإنما الضرر، ولذلك عاد الود حين اعتذر الرئيس رجب طيب أردوغان عن هذا السلوك.
بعد الاعتذار التركي حصلت الانفراجة بعودة المياه إلى مجراها، والأهم أن تركيا حظيت بدور معقول في الملف السوري، من حيث التأثير على شركائها السوريين للدخول في مفاوضات حضّرت لها كل من روسيا وإيران وتركيا.
ويجوز القول: إن أنقرة استفادت من تحسن علاقتها بموسكو، وهذا جعلها تتحرك عسكرياً لطرد الأكراد من محيط عفرين السورية، ذلك أن روسيا هي التي وافقت على هذا التحرك، وكذلك فعلت الولايات المتحدة الأميركية، أو على الأقل غضت الطرف عن التحرك التركي وتفهمته.
لكن وجهة أنقرة لا تستهدف عفرين فقط، إنما تريد القيادة التركية أن تطمئن لمسألة إزالة التهديد الكردي، والعمل على تفتيت أي تواصل جغرافي كان يمكن له أن يشكل حزاماً أمنياً في الشمال السوري، ولذلك كانت الحلقة الأضعف في عنوان عفرين التي كان يسيطر عليها الأكراد.
معادلة منبج مختلفة 360 درجة عن عفرين بحكم أن الأميركيين هناك، وهم وحدهم من يستطيعون فرملة التحرك التركي، وأساساً من غير المستبعد أن تقدم أنقرة على مغامرة خطيرة دون موافقة الأميركيين في هذا الأمر.
ما تريده القيادة التركية لتحقيق الجزء الأهم من أهداف عمليتها، هو محاربة الأكراد في الشرق من عفرين نحو منبج، ونقلهم بالسلم أو القوة إلى شرق نهر الفرات، بحيث لا يكون هناك أي تواجد كردي من غرب الفرات.
بطبيعة الحال لو كان الأمر بيد الأتراك لأنهوا الأكراد في منطقة واسعة يسيطرون عليها تصل إلى حوالى ربع الدولة السورية، إنما هناك مخاطر كبيرة من مثل هذا الإجراء، لأنها تعني أولاً توتراً شديداً في العلاقات مع الحليفة واشنطن، وثانياً توتراً مع روسيا التي تربطها علاقات جيدة مع الأكراد أيضاً، إلى جانب الحساسية الدولية من مثل هذا التحرك.
لهذه الأسباب لم تقبل القيادة التركية على التحرك صوب منبج، ولذلك نسمع بين الوقت والآخر عن تصريحات تهدد بالذهاب إلى هناك، وهي في الأساس رسائل تصل إلى الأميركيين من حيث أن عليهم تفهم الموقف التركي من العقدة الكردية.
أما أن تبقى أنقرة إلى الأبد في سورية، فإن هذا الأمر غير منطقي ولن تشكل عفرين عنواناً لسيطرة دائمة هناك لأكثر من اعتبار، وهو أن الوجود الدائم في سورية سيعني بشكل أو بآخر مواجهة بين النظامين التركي والسوري بعد أن تتمكن القوات الحكومية السورية من إزالة أهم المهددات في حساباتها.
ثانياً: لن تقبل روسيا بإقامة تركية دائمة في سورية، لكنها تستوعب أن لأنقرة مصالح في الملعب السوري، حالها من ذلك حال إيران وإسرائيل، ولذلك فإن موسكو تتعامل مع تركيا في الملف السوري بمنطق «الأخذ والرد» وهي سياسة تقوم على تقاسم المصالح في المنطقة.
ثالثاً: قد تتأجج الأوضاع الداخلية في تركيا على خلفية السيطرة الدائمة على عفرين، ناهيك عن تأثير الوجود الدائم على الفواتير السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد، ولذلك فإن تركيا تراهن في سعيها إلى تحقيق أهدافها بإضعاف الوجود الكردي في سورية إلى مرحلة لا يشكل فيها خطراً على المصالح القومية التركية.
أغلب الظن أن النظام السوري لا يعتبر الجارة تركيا بعبعاً بالمعنى الحقيقي حتى وإن سيطرت على عفرين، خصوصاً أن روسيا هي التي ترسم خريطة النفوذ وهي التي تمتلك قوة التأثير في الملف السوري، وبالتالي من غير المستبعد أن تجد قناةً للحوار بين البلدين تؤسس لعلاقات صحية بينهما.
هذا هو هامش النطاق الذي تلعبه تركيا في سورية من دور كان يذهب إلى توسيع النفوذ لتأكيد الحضور الإقليمي وتعظيمه بالرهان على دول تابعة لها أو تسير في فلكها، إلى دور يؤكد أحقية أنقرة في تأمين مصالحها الإستراتيجية بإزالة التهديد الكردي من الشمال السوري.
المصدر : جريدة الأيام