مزدحم شهر كانون الثاني الحالي بعقد مفاوضات حول النزاع السوري، ومعه تزدحم الأسئلة المتعلقة بمصيرها، وما الحاجة لاستحداث مسار سياسي في سوتشي من المقرر عقده نهاية الشهر الجاري، على الرغم من وجود مسار رسمي ترعاه الأمم المتحدة؟
سبق للمعارضة السورية المعتدلة أن علّقت على مسار سوتشي هذا بعدم رغبتها المشاركة فيه، في إطار التخوفات من احتمال أن تنسحب روسيا من دعم مسار جنيف، والتركيز على سوتشي الذي يعتبر مساراً روسياً بامتياز.
ثمة فرق كبير بين المسارين جنيف وسوتشي، وهو أن الأول مقبول أكثر بالنسبة للمجتمع الدولي عموماً، والدول الكبرى المؤثرة في النزاع السوري، عكس سوتشي الذي شككت فيه دول كثيرة من بينها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا وأيضاً الأمم المتحدة.
الفرق الثاني، يتعلق بموقف المعارضة السورية المعتدلة من سوتشي، ذلك أنها ترى فيه بديلاً عن جنيف ويهدف إلى التشويش على نتائج الجولات المقبلة من هذا المسار الرسمي، وهي بذلك مختلفة عن موقف الحكومة السورية التي ترحب بمسار سوتشي وجنيف أيضاً، بشرط التخلي عن البحث حول مصير الرئيس السوري بشار الأسد.
رئيس وفد المعارضة السورية، نصر الحريري، ذهب إلى نيويورك قبل عدة أيام، حاملاً معه أسئلة عن الهدف من مسار سوتشي، حيث التقى الأمين العام للأمم المتحدة الذي أكد له استحالة أن يكون هذا المسار بديلاً عن جنيف.
على أن هدف زيارة الحريري ارتبط برغبة في عقد جولة جديدة من المفاوضات في جنيف، وهذا فعلاً ما حصل عليه من الأمين العام للأمم المتحدة، إذ صرح الحريري بعقد هذه الجولة في الحادي والعشرين من الشهر الجاري.
هذه الرغبة جاءت لعدة أسباب: أولها، أن المعارضة السورية المعتدلة أرادت استباق انعقاد سوتشي بعقد جولة مفاوضات جديدة في جنيف، والتركيز على قضايا حيوية، مثل: موضوع الدستور الجديد والانتخابات، بهدف إفراغ مؤتمر سوتشي من محتواه.
ثانياً: لا تريد المعارضة السورية المعتدلة أن تمسك موسكو بخيوط اللعبة وتحتكر المسار السياسي، حالها بذلك حال المسار العسكري، إذ ترى في هذا الاحتكار من منصة سوتشي وإبعاد دول مؤثرة مثل الولايات المتحدة عن الضغط في المسار السياسي، محاولة لفرض الموقفين الروسي والسوري الرسمي لتسوية الأزمة.
ثالثاً: تهدف المعارضة السورية إلى تأكيد أن منصة جنيف هي أم كل المفاوضات، وأن ما يدور خارج إطارها من مفاوضات واجتماعات هو مجرد استكمال للمبادرات التي تعزز من فرص الحل السياسي، ويلحظ أن المعارضة متمسكة بمبدأ الحل الذي ترعاه الأمم المتحدة.
إذن الحديث يجري هنا عن اجتماعين سيعقدان في بحر هذا الشهر، لكن على أرضية غير صلبة وغير واضحة، ذلك أن المعارضة السورية المعتدلة التي لم تتلق إلى هذه اللحظة دعوة للمشاركة في سوتشي، تحسب أمر مشاركتها بالمسطرة، وتبحث عن تأكيدات لضمان اعتبار سوتشي قاطرة متبوعة بقاطرة جنيف.
أما روسيا، فلها أهداف من وراء عقد هذا المؤتمر في أرضها، فهي خرجت بانطباع مفاده بأن جنيف لن يجني من الشوك العنب، وأنه من الضروري البحث في خيارات أخرى جديدة لجمع الأطراف السورية من أجل حل النزاع.
في الإعلام، يتحدث الروس عن أن سوتشي مبادرة لا تعرقل جنيف أو تقصيها من سكة المسار السياسي، لكن في الجوهر يمكن القول: إن القيادة الروسية لم تعد تثق بمفاوضات جنيف، وكانت ترغب من وراء سوتشي في جمع أكبر عدد من الفاعلين الدوليين المؤثرين في المشهد السوري، وإحضار المعارضة والحكومة السورية والضغط لجهة فرض حل منطقي، لكنه أيضاً حل يخدم التوجهات والمصالح الروسية.
كلا الاجتماعين قد يخوضان في موضوعي الدستور الجديد والانتخابات، وهناك أيضاً إمكانية لتأجيل انعقادهما إذا ما ظلت المعارضة السورية متمسكة بشرط رحيل الرئيس الأسد عن السلطة، وهذا أمر وارد، وسبق للمعارضة أن طرحت هذا الموضوع قبل مشاركتها في أي مفاوضات كانت.
قد يجوز أن ما تريده روسيا يتصل بربط المسار العسكري بالسياسي، فهي حين أحكمت الحصار على «داعش» وأنهته في سورية، وحافظت على مناطق خفض التصعيد التي تشكل نوعاً من استراحة المحارب بالنسبة لفرقاء النزاع، وفي القلب منها القوات الحكومية السورية، فإنها بذلك تريد مقايضة المعارضة بفكرة دمجها في النظام السياسي السوري مقابل الحفاظ على وجودها.
وفي حقيقة الأمر، لا يخفى على أحد أن لدى موسكو تصوراً لنهاية الأزمة السورية، إذ كانت منذ فترة تعكف على وضع دستور جديد، كما لديها تصور لموضوع الانتخابات الرئاسية، وهي منفتحة على فكرة طرح هذين الموضوعين في سوتشي، على اعتبار أن الخوض فيهما تدريجياً قد يقود إلى نتيجة قبولهما في المستقبل.
سوتشي هو نتاج تصريح الرئيس فلاديمير بوتين حول التركيز في المسار السياسي، ويبدو أنه أيضاً ثمرة الجهد العسكري الروسي في سورية، إذ حسب بوتين انتصرت موسكو من الملعب السوري وأثبتت أن النظام الدولي يحتمل الثنائية والتعدد في القطبية.
وهي اليوم بالمسار السياسي ومن منصة سوتشي تريد تحويل مبدأ إدارة النزاع السوري إلى الحل السياسي، وبهذا تكون كسبت جولة أخرى من الملاكمة الناعمة ضد الولايات المتحدة في الحلبة الدولية، حيث ترى في المسار السياسي السوري فراغاً ترغب في ملئه.
مسار جنيف لا يبدو أنه سيحقق نتائج جيدة لأن القوى التي خلفه لا تدعمه ولا تدفع باتجاه الضغط على فرقاء النزاع السوري من أجل القبول بالحل، ومسار سوتشي قد لا يصلح أيضاً للحل في ظل غياب التوازن الدولي من قبل الجهات الداعمة لهذا المسار.
الموضوع لا يتعلق بالمسارات ولا باستحداثها، وإنما يتعلق بالإرادة الدولية للاكتفاء من تواصل النزاع السوري والعمل بشكل جماعي لإنهاء هذه الأزمة، وغير ذلك فإن مشوار النزاع العسكري له رأيه في إمكانية حسم هذه المسألة.