ثلاث مناطق لخفض التصعيد أو التوتر في سورية جرى إقامتها من أصل أربع، بعد قرار الإعلان عنها في الرابع من شهر آيار الماضي، بين روسيا وإيران وتركيا في لقاء أستانة 4 الذي مهد لترجمة هذه المناطق على أرض الواقع.
في أستانة 4 اتفقت هذه الدول على تنويع المناطق شبه الآمنة، بحيث أن تكون الأولى في الجنوب السوري لجهة الغرب، والثانية في غوطة دمشق، والثالثة في الوسط السوري، بينما الرابعة في الشمال الغربي فوق العاصمة دمشق.
كان يفترض من لقاءات أستانة 5 التي عقدت بعد شهرين على أستانة 4، أي في تموز 2017 أن تترجم بإقامة تلك المناطق، غير أن الأطراف الثلاثة (روسيا وتركيا وإيران) لم تتفق على آليات ومهام وصلاحيات مناطق خفض التوتر، وبعد هذا اللقاء بأيام جرى الإعلان عن أول منطقة لخفض التوتر.
المنطقة الأولى شديدة الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، حيث جرى الاتفاق عليها بين الرئيسين الأمريكي والروسي ترامب وبوتين في قمة العشرين بهامبورغ، وهو اتفاق ثلاثي شمل الأردن التي تربطها حدود مع سورية.
منطقة خفض التوتر الأولى شملت محافظات السويداء والقنيطرة ودرعا، وهذه مرتبطة بحدود مع الأردن وهضبة الجولان المحتلة، إذ تراها واشنطن مهمة للحفاظ على أمن الاحتلال الإسرائيلي، في الوقت الذي قال فيه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إن الاتفاق يراعي مصالح إسرائيل التي يبدو أنها كانت حاضرة وتعلم بتفاصيله.
إسرائيل التي وافقت على هذا الاتفاق سرعان ما تململت منه، على اعتبار أنه لا يخدم مصالحها طويلة المدى، حيث جرى الاتفاق على إبعاد القوات الحكومية السورية ومجموعات تابعة لإيران وحزب الله عن مناطق عدم التصعيد الجنوبية الغربية من سورية.
صحيح أن إسرائيل لا تريد وجوداً للقوات الحكومية السورية والإيرانية بالقرب من منطقة الجولان المحتل، لكنها أيضاً متخوفة من تنقل هذه القوات وتمركزها في مناطق أخرى من جهة غرب دمشق تلاصق الحدود مع لبنان وهي بطبيعة الحال تشكل تهديداً بالنسبة لإسرائيل انطلاقاً من القرب الجغرافي.
اتفاق المنطقة الأولى هذا يعكس بقوة تضارب المصالح بين الدول الحاضرة في النزاع السوري، ذلك أن تركيا مثلاً أكثر ما يعنيها وجود مناطق آمنة في الشمال السوري بالقرب من حدودها، كون هذه المظلة تفرمل تمدد الأكراد.
إيران لم يعجبها الاتفاق ووافقت عليه على مضض، لأنه عنى بالنسبة لها ابتعاداً ولو بسيطاً عن الجنوب السوري، وأما إسرائيل فإنها لا تريد في الأساس وجوداً إيرانياً في كامل التراب السوري، وهي قلقة من تنامي دورها في المنطقة. هذا عن المنطقة الأولى، أما المنطقة الثانية فقد جرى الاتفاق عليها في غوطة دمشق في بحر شهر تموز الماضي، بينما اتفق على المنطقة الثالثة أوائل الشهر الجاري، وهي في شمال مدينة حمص وتعتبر مهمة لكونها تضم حوالي 84 بلدة وتشمل 147 ألف شخص.
المنطقة الرابعة إدلب التي تعني تركيا في المقام الأول، لم يجر الاتفاق حولها بسبب سيطرة هيئة تنظيم الشام عليها، وعلى الأغلب أن يناقش لقاء أستانة 6 المزمع عقده أواخر الشهر الجاري هذه المناطق وفي القلب منها موضوع إدلب.
إذاً يجوز القول إن هذه المناطق تعكس مصالح أصحابها، وكأنها شكل من أشكال تقاسم النفوذ وترسيم القوة، إذ يبدو أن الهدف منها غير واضح، خصوصاً وأن الحديث يتنوع بين كونها مناطق لحماية السكان وضمان وصول المساعدات إليهم، وبين كونها محيدة في النزاع وتنتمي إلى مناطق شبه آمنة.
على أن الوصف الدقيق لهذه المناطق هو أنها كانتونات جيوسياسية تهدف إلى تخفيف الضغط على الحدود أولاً، من حيث منع انتقال عناصر تنظيم «داعش» الإرهابي إلى خارج سورية، فضلاً عن كونها محطات لاستراحة فرقاء النزاع من القتال باتجاه إعادة لملمة صفوفهم.
ثم إنها تعكس الوجود العسكري واليد الطولى للدول الحاضرة في المشهد السوري، روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة ، وكل واحد من هؤلاء يحاول بقوة حماية مصالحه وحلفائه في الملعب السوري ويبدو أن روسيا التي اقترحت موضوع المناطق شبه الآمنة تلك، تهدف من ورائها إلى إنشاء مظلات آمنة تجعل من القوات الحكومية السورية وشركائها يركزون في جبهات النزاع على تنظيم «داعش» في كل من الرقة ودير الزور، وتنظيف المعارضة في محيط مدينة دمشق.
إن خطة موسكو لإحكام السيطرة على سورية، تقضي بتمكين القوات الحكومية السورية عبر سياسة «الحرق التدريجي»، وهي تقوم على قضم الأراضي من «داعش» وحسر نفوذه قدر الإمكان، وفي المقابل وعلى الصعيد السياسي والمفاوضاتي، ترويض المعارضة المعتدلة وجعلها أكثر قدرة على هضم الأمر الواقع باتجاه قبول واستيعاب النظام السوري في إطار اتفاق محاصصي يرضي أطراف النزاع.
بطبيعة الحال لا يمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تسلم أمرها بدون حصة جيدة تضمن مصالحها الحيوية ومصالح حلفائها في المنطقة، ففي نهاية الأمر لن تكون تسوية الأزمة السورية إلا مجرد اتفاق يراعي بشكل أو بآخر مصالح تلك الدول.
أقلها أن تطالب واشنطن على خروج إيراني من سورية، وفضاء جغرافي واسع وآمن في الجنوب الشرقي والغربي السوري، يحقق الأمن ولا يُخوّف إسرائيل، وقد يتجاوز الأمر المربع السوري، نحو الحصول على أثمان أخرى خارج هذه الحدود.
غير أنه من الصعب الجزم إن كانت المناطق شبه الآمنة هذه مقدمة لحسم النزاع السوري، خصوصاً وأن الأخير معرض لمزاج الدول الكبرى الحاضرة في المشهد السوري، فهي وإن كانت متأرجحة في الإعلام بين القبول بوجود الرئيس الأسد في السلطة، وبين رفضها لأي مستقبل له، إلا أنها تصيغ مصالحها وتصوراتها وفق ما يجري في حلبتي روسيا ومآلات النزاع العسكري على الأرض السورية.
سورية ساحة للصراع الإقليمي والدولي مثلما جرى ويجري في العديد من دول العالم، ففي نهاية الأمر وحده الشعب السوري من يدفع الثمن وتتأخر التنمية والحياة المعيشية لديه عشرات الأعوام إلى الوراء. باختصار الأقوياء يلعبون والعرب يتفرجون.