لأول مرة منذ بداية النزاع السوري أوائل 2011، يحضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى القاعدة الجوية حميميم في اللاذقية، ومن هناك يعلن انسحاباً كبيراً لقواته من سورية، بعد أن حقّق إنجازاً عسكرياً أنهى وجود "داعش" الإرهابي في هذا البلد.
أن يأتي بوتين إلى سورية فجأةً ويلتقي نظيره السوري بشار الأسد ويخطب أمام جنوده، فهي رسالة قوية على أن روسيا تتحكم بخيوط اللعبة، وأنها تسعى لجني واستثمار الانتصار العسكري الذي تحقق لصالحها وصالح القوات الحكومية السورية.
على أن زيارته السريعة إلى حميميم، تحمل مضامين كثيرة لعلّ من أهمها أن بوتين يريد إحراج الولايات المتحدة عن السبب في وجودها غير الشرعي في الأراضي السورية، إذ تعتبر موسكو أن تدخلها العسكري الذي ثبت أواخر أيلول 2015 هو شرعي يستجيب لطلب من الحكومة السورية.
هنا أراد الرجل من سحب كبير لقواته، أن يقول إن سورية ما عادت بحاجة إلى الدعم العسكري الكبير من روسيا، والوضع الداخلي السوري بات هادئاً أكثر من أي وقت مضى، والمطلوب قريباً هو الانتقال من المربع العسكري إلى الفعل السياسي المتحرك لكن لا يعني سحب العديد من القوات الروسية أن الأخيرة انسحبت تماماً من سورية، ذلك أن موسكو كانت حاضرة كل الوقت في هذا البلد حتى قبل النزاع السوري، وستبقى قاعدتين عسكريتين واحدة جوية في مطار حميميم والثانية بحرية في طرطوس الشمالية الشاطئية.
سبق للرئيس الروسي أن أعلن عن تخفيض قواته منذ أكثر من عام، استناداً إلى المنجز العسكري الذي حققته القوات الحكومية السورية في ميدان حلب، إذ كان الهم الأكبر يتصل بعدم تمكين المعارضة المعتدلة من السيطرة على هذه المدينة أو غيرها من المدن السورية.
روسيا كما هو حال سورية كانت مهمومة من أن تتوسع سيطرة المعارضة السورية المعتدلة على مفاصل الدولة، لأن توحدها وتنامي قوتها سيعني بالتأكيد تهديد للمصالح الروسية في المنطقة، وتهديد آخر للنظام السوري الذي يعتبر أن هدف المعارضة الرئيس هو ضرورة تنحي الأسد عن السلطة.
فعلاً ما جرى هو أن القوات الحكومية السورية بمساعدة الروس، تمكنت من تحجيم القوة العسكرية للمعارضة المعتدلة، بتقليم أظافرها وأسنانها، وجعلها معارضة ناعمة غير قادرة على فعل أي تأثير عسكري، ومن ثم الانتباه لتنظيم "داعش" الإرهابي، باعتباره الأولوية الثانية بعد أولوية المعارضة المعتدلة.
وحصل أن أضعف صوت المعارضة وصار دورها سياسي أكثر من كونه تهديد عسكري وجودي للنظام السوري، في حين انتهى الوجود "الداعشي" في آخر معاقله بدير الزور والرقة، وأعلن بعدها بوتين من موسكو أنه انتصر على هذا التنظيم، وأنه آن الأوان للبحث في تسوية سياسية تنهي الأزمة السورية.
من المهم هنا عدم إغفال مضمون مهم، وهو أن الرئيس الروسي يسعى إلى ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية التي تقام مطلع العام المقبل، وتحديداً في شهر آذار، وذهابه إلى سورية والإعلان عن انسحاب قواته، يحسن من صورته على الصعيد الداخلي الروسي ويعزز من حظوظه للفوز في هذه الانتخابات.
إذاً رسالة بوتين من سورية هي داخلية وخارجية، الهدف منها جعله أكثر قدرة على المناورة وتسجيل الأهداف، لأنه داخلياً يكون قد بعث رسالة للناخب الروسي بأنه واجه أكبر قوة في العالم من المربع السوري ولم ينحن، وأنه يراعي مصالح بلاده ولا يورطها في حرب خاسرة.
أما الرسالة الأخرى فهي عدا عن كونها إحراجية للولايات المتحدة بسبب وجودها العسكري في عدد من القواعد داخل الأراضي السورية، فإنها أيضاً سياسية تؤكد على أن حل الأزمة السورية يبدأ من موسكو وينتهي من حيث تريد.
كل فكرة بوتين الآن تتصل بترويض المعارضات السورية وإعطائها سلماً للنزول منه إلى حيث الاتفاق على حكومة بمظلة كبيرة تجمع الأضداد، وتستوعب في الأساس الأكراد والمعارضة المعتدلة، لكنها أيضاً تركز على بقاء الرئيس الأسد في السلطة.
وقد يبدو أن الرئيس الروسي سيركز في المستقبل المنظور على الفعل السياسي وليس العسكري، ذلك أن موسكو لا تريد لسورية أن تبقى هي نفسها سورية قبل النزاع السوري، يحكمها نظام يتفرد في السلطة بدون أي صوت قوي لمعارضة فاعلة على الأرض.
وقد يكون هناك تباطؤ أو ترقب حكومي سوري من مخرجات المسارات السياسية إن على مستوى جنيف أو حتى أستانة، إلى جانب ذلك المؤتمر الذي تعكف روسيا على إعداده والذي يستهدف جمع أطراف النزاع السوري في سوتشي.
على هذا الأساس فإن الاستراتيجية الروسية تتركز في إيجاد أرضية سياسية يقف عليها الجميع، لكن هذه المرة ليس في جنيف وإنما في الأراضي الروسية، وإلا ما المغزى من توليد مسار جديد ربما هو نسخة من مسار جنيف؟
قد يكون هذا الوقت هو بالفعل وقت المساومات السياسية، إذ ربما تريد موسكو من إحضار المسار السياسي السوري إلى حجرها والتحويط عليه، أن تتمكن من المساومة مع الولايات المتحدة الأميركية ومع المعارضة السورية المعتدلة على آلية يمكن البناء عليها لتسوية الأزمة السورية.
من الآن فصاعداً ستركز روسيا على أن ينسى المجتمع الدولي أطروحة تنحي الأسد عن السلطة، وستسعى للاستعاضة عن ذلك بتسويق الرئيس السوري على أنه يصلح شريكاً للقضاء على العنف وضبط الأمن وعدم انتشار الإرهاب إلى خارج الحدود السورية.
مع ذلك تبقى عين روسيا مفتوحة على إمكانية شدّ مفاصل المعارضة المعتدلة وتركيعها عسكرياً، إذا لم تستجب الأخيرة إلى النهج الروسي في التعامل مع الأزمة السورية، بدليل أن بوتين قال سنعود إلى سورية ونضرب المسلحين إذا لزم الأمر.
هذه رسالة ليست موجهة إلى تنظيم "داعش" في حال لملم جراحه وأعاد تنظيم صفوفه في الداخل السوري، وإنما هي أيضاً موجهة إلى المعارضة المعتدلة التي ربما باتت تنظر إلى الخيار السياسي في تحصيل مواقفها أكثر من الخيار العسكري بحكم القدرات الحالية.
على كل حال، يجوز القول إن الاستراتيجية الروسية الخاصة بالملف السوري باتت أكثر وضوحاً من ذي قبل، ومن الانتقال من مربع الفعل العسكري إلى السياسي تكتيكياً، هو محاولة لقطف ثمار الجهد الروسي في سورية، والأخذ بعين الاعتبار مصالح الشركاء الإيرانيين والأتراك، ولاشك عدم إغفال المصالح الأمنية والحيوية لإسرائيل اللاعب الحاضر في المشهد السوري.