يوماً بعد يوم ينتقل الملف السوري من مربع ساخن إلى آخر أكثر سخونة، على خلفية العوامل الخارجية التي تهدف إلى إطالة عمر النزاع والسعي للحصول على أكبر حصة ممكنة من الغنائم في هذا البلد الذي لم يعرف الأمن والأمان منذ حوالي سبع سنوات.
كان يُعاب على الولايات المتحدة الأميركية عدم وضوح الموقف وغياب الاستراتيجية المتعلقة بالتعامل مع الملف السوري، غير أن ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأميركي، أماط اللثام عن هذه الاستراتيجية ومصلحة واشنطن في البقاء بسورية.
فجأةً وبعد انقطاع مقصود في التعامل مع الملف السياسي السوري، يصرح تيلرسون بأن بلاده ستحتفظ بوجود عسكري داخل سورية بهدف التأكد من عدم ظهور تنظيم "داعش" الإرهابي، الذي أُقصي من معاقل وجوده ومصدر قوته في كل من محافظتي الرقة ودير الزور.
وزير الخارجية الأميركي طرح استراتيجية بلاده في التعامل مستقبلاً مع الملف السوري، يشمل ذلك عدا عن موضوع الإرهاب والتحوط لعودته إلى سورية، السعي دبلوماسياً لإقصاء الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة، إلى جانب تحجيم الدور الإيراني داخل سورية.
هذه الأهداف من شأنها أن تُغيّر من دور الوجود العسكري الأميركي في سورية، إذ هناك بالفعل حوالي 2000 جندي في عدد من القواعد العسكرية، لكن يبدو أن هذا الدور لن يقتصر على الوجود الأميركي فحسب، بل الاستعانة بذراع أخرى عنوانها الأكراد.
أساساً قبل تصريحات تيلرسون هذه، كان التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن يعلن عن السعي إلى تشكيل قوة عسكرية حدودية نصفها من الأكراد، والنصف الآخر سيجري تجنيده على دفعات، تهدف إلى تأمين الحدود السورية مع كل من العراق وتركيا.
بصراحة هناك ألغام كثيرة في هذا الإعلان، لأن تأمين الحدود يقع على عاتق الدولة صاحبة السيادة والأرض وهي سورية، بالإضافة إلى أن تنظيم "داعش" الإرهابي لم يعد ذلك المهدد الخطير، وكان يمكن التواصل مع دول الجوار مثل العراق وتركيا للتأكيد على أهمية ضبط الحدود.
غير أن الإعلان يفسر أن للولايات المتحدة أهدافا في سورية، أولها الرغبة في البقاء هناك إلى أجل غير مسمى، ومنع تمدد الوجود الإيراني، والثالث حماية الوجود الكردي الذي تنظر إليه واشنطن على أنه حليف يحمي مصالحها، وفي ذات الوقت يشكل ورقة ضاغطة تستخدمها الولايات المتحدة ضد تركيا وقتما تشاء.
أيضاً يشكل الإعلان رسالة إلى مختلف الأطراف الدولية التي تنظر بقلق بالغ لمسألة التنامي الكردي في الشمال السوري، على أن قوات سورية الديمقراطية خط أحمر بالنسبة لأميركا، ومن يعاديها فإنه يعادي السياسة الأميركية في المنطقة.
لنا أن نلاحظ بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هدّد بإجراء عملية عسكرية عنوانها عفرين ومنبج التي يسيطر عليها الأكراد في شمال سورية، تبعه بعد ذلك إعلان التحالف الدولي عن تشكيل قوات من 30 ألف مقاتل.
إعلان التحالف جاء بعد تصريحات أردوغان، وقد يعني ذلك أن واشنطن لا تقبل من تركيا استهداف الأكراد في أماكن تواجدهم بالشمال السوري، وأساساً حينما غيّرت الولايات المتحدة من سياستها بتعديل الدعم من المعارضة السورية المعتدلة إلى الأكراد، لم يقترب أي طرف ناحية قوات سورية الديمقراطية.
الجميع سكت عن الدور الكردي في الشمال السوري، روسيا وإيران وتركيا والنظام السوري، لكن أنقرة ظلت تعاني من حمى تنامي هذا الدور والتخوف من مسألتين: إما تشكيل حزام كردي متواصل جغرافياً بالقرب من الحدود السورية- التركية، أو الخوف الأعظم من إيجاد دولة كردية مستقلة على الجنوب التركي.
وهذا السكوت لم يأت من فراغ، إذ أنه أولاً مرتبط بالأولويات، حيث رأت روسيا في تهديد تنظيم "داعش" شر أكبر، وكانت ترغب أن يُحسب لها دولياً هزيمة هذا التنظيم، بينما ينظر النظام السوري ومعه إيران إلى المعارضة السورية المعتدلة على أنها الشيطان الذي ينبغي استئصاله.
ثانياً الموضوع متعلق بتوازنات القوى في الساحة السورية، وعدم الدخول في تصعيد قد لا تُحسب عقباه، خصوصاً وأن الأكراد مدعومين من الولايات المتحدة الأميركية، وأي تهديد لهم قد يشعل المنطقة في حرب أوسع من الحالية.
الاستراتيجية الأميركية في سورية تشي بأن واشنطن تريد تعزيز دورها في الملف السوري، ربما لعاملين يتعلقان بالتأكيد على أنها تبقى الدولة الأكثر تأثيراً في العالم وصاحبة القرار في كل تفصيلة، ولا ترغب أن تحتكر روسيا مسألة إدارة الأزمة السورية.
العامل الآخر يتصل بالمردود من هذا التدخل، سواء المردود السياسي أو المادي، ومن غير المستبعد أن يخضع الملف السوري إلى صفقات من تحت الطاولة ومساومات لحل الأزمة السورية بحساب الكلف والعوائد السياسية والاقتصادية.
الواضح في الموقف الأميركي الجديد وإعلان تشكيل قوات حدودية، أنه شوّش كثيراً على مسار سوتشي الروسي، كما أثار حفيظة روسيا وتركيا وإيران والنظام السوري، ويلحظ أن كل دولة تُقيّم المخاطر بناء على حساباتها ومصالحها.
لكن الخشية العظمى أن يشكل إعلان القوات الحدودية مقدمة لتقسيم سورية إلى منطقتين أو ثلاث، واحدة في الشمال يحكمها الأكراد، والثانية في الوسط يحكمها النظام السوري والثالثة أقل مساحة وتحكمها المعارضة المعتدلة.
هذا أسوأ السيناريوهات وأكثرها تشاؤماً، ولا يمكن إطلاق صفة الاستحالة عليه بالنظر إلى المعطيات الجديدة. أما أكثر السيناريوهات تفاؤلاً يقول إن المسار السياسي ابتعد مسافة جيدة عن جهود وممكنات الحل، وتدخل الأطراف الدولية في النزاع السوري يُشكّل الوقود المستمر للنزاع.
ولعل فرص نجاح الحل السياسي مرهونة بأن ترفع الدول الكبرى المؤثرة في النزاع السوري أيديها عنه، ذلك أن أكبر تحدي لهذا النزاع هو تدخل القوى الكبرى فيه والسعي إلى فرض عضلاتها والتنافس فيما بينها على المسرح الدولي من المنصة السورية.
وكما أدارت روسيا الأزمة السورية بطريقة أعادت الاعتبار إلى دورها في النظام الدولي، وكرّست هذا الدور لتأمين مصالحها الحيوية، تفعل الولايات المتحدة الأميركية ذلك، وتقرر البقاء في سورية على قاعدة تأكيد الحضور الأميركي في المنطقة وتفتيت الشرق الأوسط وضمان تفوق إسرائيل.
نقلًا عن جريدة الأيام