علامة فارقة في تاريخ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي أن تتراجع الحكومة الإسرائيلية عن قرار نصب جسور حديدية وبوابات إلكترونية وكاميرات ذكية على أبواب المسجد الأقصى المبارك، بعد مرور أسبوعين على وضعها.
هذا التراجع لم يكن ليتحقق لولا غليان الشارع الفلسطيني والمقدسي تحديداً في وجه الإجراءات العنصرية لسلطات الاحتلال، ولولا جهود السلطة والفصائل الفلسطينية والأردن في الضغط على إسرائيل لتفكيك تلك البوابات.
رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي لم يستمع جيداً إلى تقارير مسؤولي الشاباك والمخابرات ومختلف أجهزة الأمن الإسرائيلية الذين حذروا من نصب البوابات الإلكترونية في القدس، نتنياهو هذا ركب رأسه وفضّل التعامل مع أصوات يمينية عنصرية في حزب الليكود ومن خارجه وإرضائهم بوضع تلك البوابات.
غير أنه حين صعد إلى أعلى الشجرة، لم يكن يتوقع أن ينزل بهذه الطريقة السريعة، خصوصاً وأن الكل الفلسطيني توحد ضد هذه الإجراءات الاستفزازية التي كان الهدف من إجرائها تعزيز قبضة الاحتلال في القدس والتمسك بقرار وحدانيتها وعدم تقسيمها.
في القدس سجّل الفلسطينيون حالة متميزة من التضامن النضالي والاجتماعي ضد الوجود الإسرائيلي هناك، مدركين أن عدم التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي بحزم وتمرير مثل هذه الإجراءات العنصرية سيعني مقدمة للمزيد من الإجراءات التي تهدف إلى تهويد القدس المحتلة.
نتنياهو نزل من قمة الشجرة وأوعز لشرطته بتفكيك الجسور الحديدية والبوابات الإلكترونية، لأنه أدرك أن المعركة مع الفلسطينيين ليست مجرد هبة سريعة قد تهدأ، بل يحتمل أن تتوسع وتتحول إلى انتفاضة ثابتة من شأنها أن تؤثر كثيراً على الاحتلال وتلحق الأذى به.
في حقيقة الأمر إقامة البوابات الإلكترونية أمر جد استفزازي ويبعث على السخط الكبير لكونه يمس المعتقد الديني ويمنع المسلمين من أداء صلواتهم بحرية، بل يفرض عليهم قيوداً على الصلاة ويذلهم بطريقة أو بأخرى، ولذلك فإن حجماً من هذا القرار لاقى رداً من مستواه وأكثر.
ولعل أسباب نزول نتنياهو عن الشجرة مرغماً عند الموقف الفلسطيني الذي دعا إلى إزالة كل الحواجز الإلكترونية، مرده إلى أن الأول لا يرغب في توسيع حجم الاشتباك مع الفلسطينيين، خاصةً وأن مثل هذا النوع من الاشتباك سيوفر نوعاً من الصمود الأسطوري وسيؤدي بالتدريج إلى فرملة لغة وحدية الانقسام الفلسطيني الداخلي.
حدث أن ترجم الرئيس محمود عباس قرارات جوهرية خدمت في حقيقة الأمر الهبة الفلسطينية والمقدسية ضد قرار نصب الحواجز الإلكترونية، فحين يقرر أبو مازن وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال قولاً وفعلاً، فهذا يعني أن القيادة خلف الشعب "بالباع والدراع".
وحين يدعو الرئيس أيضاً إلى الاعتكاف في القدس وتوسيع هامش الاشتباك السلمي مع الاحتلال، فإن الهبة الجماهيرية قادرة على التأثير ولديها من عوامل الصمود ما يجعلها تؤذي إسرائيل، ليس بالضرورة إيذاءً مباشراً وسريعاً فحسب، وإنما إيذاء على المديين المتوسط والبعيد.
ثم حين تسجل القدس وأهلها حالة من التلاحم الوطني قلما يحدث في العالم، تلاحم وانسجام في الموقف بين المرجعيات الدينية هناك، فهذا يعني توفير الزخم الديني والنضالي والفكري لهبة تحتاج إلى تضافر كافة الجهود من أجل دفعها للاستمرار والحفاظ على ديمومتها برفض الإجراءات الإسرائيلية العنصرية في القدس.
أيضاً كان للفصائل الفلسطينية دور مهم في حماية وصون القدس من الإجراءات الإسرائيلية التعسفية، ورد الفعل الفلسطيني هذا كله حين يجتمع في موقف واحد، فإن النتيجة قد تكون بالضرورة إيجابية يصلح المراكمة عليها لتمكين صمود الفلسطينيين.
لقد تراجع نتنياهو نتيجة هذا الضغط الفلسطيني والشعبي عليه، وأيضاً بسبب عدم ارتياح الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من قراره، لكن هذا التراجع لا يعني أن الاحتلال الإسرائيلي لن يكف عن الأذى ويتوقف عن العبث بثوابت ومقدرات الشعب الفلسطيني.
سيعمل رئيس الحكومة الإسرائيلية كالعادة على أمرين، الأول الاستمرار ومتابعة الإجراءات الإسرائيلية التي تحيل القدس شيئاً بعد شيء إلى التهويد الحقيقي، وهذا يتأتى بطبيعة الحال بإجراءات وقرارات غير مستفزة كثيراً للفلسطينيين.
بمعنى، هناك إجراءات إسرائيلية يومية لتهويد القدس الشرقية، سواء حفريات تحت القدس أو إجراءات قمعية في محيطها على الأرض، وباستثناء أهل القدس وصمودهم المتواصل، لم تتحرك القيادة الفلسطينية ولا الشارع الفلسطيني كما حصل في هبة الرابع عشر من تموز الجاري.
سيعود نتنياهو للثأر وإرضاء المتعطشين من المتطرفين في حزبه والمستوطنين، لممارسة إجراءات قمعية استفزازية، مثل تسريع الاستيطان في الضفة الغربية وفي القلب منها القدس الشرقية، وسيستعجل سن القوانين العنصرية التي تمس وضع القدس، كما هو حال إقرار الكنيست بالقراءة الأولى مشروع قانون القدس الموحدة الذي يمنع تقسيمها والتنازل عن جزء منها في أي تسوية ممكنة مع السلطة الفلسطينية.
الأمر الثاني يتعلق بموقف نتنياهو من أهمية تعميق الخلاف الفلسطيني الداخلي، فهذا بالنسبة إليه بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهباً، إذ حينما يكرس الفلسطينيون ويستهلكون كل وقتهم في التركيز على الانقسام، فهذا يجعل رئيس الحكومة الإسرائيلية فوق الريح، كونه يستبيح الأراضي الفلسطينية بدون رادع أو حتى أن يدفع أي ثمن باهظ أو غير ذلك.
درس القدس هذا جد مهم ومشرّف، وينبغي المراكمة عليه لجهة توحيد الخطاب والرؤية والنضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولجهة مغادرة كل أشكال الانقسام الداخلي التي يمكنها أن تؤثر سلباً على صمود الفلسطينيين في مناطق التماس مع الاحتلال الإسرائيلي.
لقد خسرت إسرائيل في هذه المواجهة المفتوحة مع الفلسطينيين، وهي خسارة اعترف بها رئيس حزب البيت اليهودي ووزير التربية والتعليم المتطرف نفتالي بينيت، الذي قال إن بلاده "خرجت مستضعفة من هذه الأزمة، وبدلاً من تعزيز سيادتنا في القدس تم تمرير رسالة بأنه بالإمكان تقويض السيادة".
الاحتلال لم ولن ينتهي أو يهدأ لأن طبيعة الوجود الصهيوني قائمة على رفض الآخر وقائمة على طرد الفلسطينيين واحتلال أرضهم، وإذا ما كان هناك مشروع وطني عاجل يجمع كافة القوى الفلسطينية والمرجعيات الدينية ويربطها ببعضها البعض بهدف واحد ومصير مشترك، فإننا أمام واحدة من الجولات الكبرى وفي الطريق إلى مواجهة أخرى جديدة.