بقلم : هاني عوكل
كثرت نقاط المراقبة التي أنشأتها تركيا في محافظة إدلب ومحيطها، إلى درجة وصولها إلى 57 نقطة مراقبة عسكرية، في الوقت الذي يستنفر فيه العالم ويشد الحزام لمحاربة فيروس كورونا المستجد، وكذلك تفعل الحكومة السورية لمنع انتشار الفيروس داخل أراضيها.
في غضون أقل من أسبوع، بنت أنقرة خمس نقاط مراقبة في ريف إدلب الغربي، وهي نقاط يبدو أن الهدف الأساسي منها يتعلق بتشكيل مصدات تمنع تقدم الجيش السوري نحو شمال وشرق إدلب إذا ما أجهضت الهدنة المعلن عنها بين الطرفين، الروسي والتركي قبل أكثر من شهر والخاصة بوقف التصعيد هناك.
تعزيز الوجود التركي في إدلب جاء على الرغم من تصريحات منسوبة لمتحدث باسم وزارة الدفاع قال فيها، إن بلاده ستقيد وجودها العسكري في سورية بسبب انتشار جائحة «كورونا» التي تهدد الدول وتربك حساباتها على مختلف المستويات وفي القلب منها المخططات العسكرية.
أنقرة فعلت العكس ويبدو أنها تستثمر قرار وقف التصعيد مع روسيا لترسيخ وجودها العسكري، وضمان عدم تكرار النزاع الأخير الذي أدى إلى سيطرة الجيش السوري على مناطق استراتيجية مثل خان شيخون وسراقب، فضلاً عن أنها تقدم الدعم للمعارضة السورية التي كان من الممكن أن ينتهي وجودها لولا وقوف تركيا إلى جانبها.
هناك من يقول ويسوق إدخال الكتل الإسمنتية من تركيا إلى إدلب وكذلك نقل معدات عسكرية إلى الأخيرة بأنه يصب في إطار جهود محاربة الأكراد وإضعاف وجودهم في الشمال السوري، غير أن هذا الهدف لم يعد هو الأساس بالنسبة لأنقرة، لأنها تمكنت بالفعل من إضعاف الوجود الكردي هناك.
ما تزال تريد أنقرة إقامة منطقة آمنة على طول حدودها مع سورية وكذلك بعمق يصل إلى 32 كيلومترا، وهي تفعل الآن على «الساكت»، وربما يشكل تعزيز وجودها العسكري في إدلب جزءاً من استراتيجيتها لتثبيت المنطقة الآمنة التي تعمل عليها، وكذلك إقامة حزام ديمغرافي سوري يضغط على الوجود الكردي ويمنع تواصله الجغرافي والديمغرافي.
على الرغم من وجود تهدئة متفق عليها بين موسكو وأنقرة، إلا أن الطرفين يدركان أن هناك معارك مقبلة قد تحدد خريطة النزاع في سورية، ولذلك يلحظ أن روسيا تستعجل إرسال قواتها إلى منطقتي منبج وعين العرب، وأيضاً تعيد تمركز قواتها لمنع أي توسع تركي في شمال سورية.
في المقابل، تدعم تركيا المعارضة السورية لأنها تدرك أن حكومة الرئيس بشار الأسد لن تسكت أبداً عن هدنة لا تكفل حقها باستعادة كامل إدلب، ومن غير المستبعد أن يجري شيطنة سورية بتسهيل مهمة عناصر «داعشية» للدخول على خط النزاع من جديد وخلط الأوراق.
أواخر الشهر الماضي، هربت عناصر «داعشية» من سجن في الحسكة وقبلها بأشهر تمكن آخرون من الهروب من سجون في شمال سورية، وهؤلاء ينخرطون في النزاع من جديد ربما إلى جانب «جبهة النصرة» المتطرفة لوقف تقدم الجيش السوري في محافظة إدلب.
كل الأطراف تستغل الأجواء الحالية من تفشي «كورونا» إلى صمود الهدنة من أجل تعزيز وجودها والتحضر للمعركة المقبلة، خصوصاً وأنه لم يجر إلى هذه اللحظة فتح باب النقاش الدبلوماسي عالياً حول مصير إدلب، ولذلك قد نكون أمام مرحلة من عودة الصراع ولو على شكل إطلاق نار متقطع بين الوقت والآخر.
تركيا قد تكون مشغولة بالفعل في محاربة جائحة «كورونا» التي تتفشى داخل أراضيها، لكن عينها أيضاً على شمال سورية وهي لا تريد أن يحصل لها في إدلب كما حصل لها من قبل، كما أنها تفضل قتال الجيش السوري باستخدام سلاح المعارضة وتوظيفها لحماية مصالحها في المنطقة.
وكذلك تنشغل روسيا في منع انتشار «كورونا»، حالها في ذلك حال الكثير من الدول، لكن هذا لا يمنع أيضاً من تحصين وجودها العسكري في الشمال السوري والتحين للفرصة المناسبة التي يحصل فيها الجيش السوري على الضوء الأخضر لاستكمال مسار السيطرة على إدلب.
تدرك تركيا أن مصيرها في إدلب إلى رحيل، غير أنها لا تريد تكرار سيناريو حلب التي تكبدت فيها المعارضة السورية خسائر فادحة جداً وأيضاً تأثرت مصالح أنقرة الاستراتيجية، ولذلك لا يعني وضع الكتل الخرسانية والعلم التركي في إدلب أن الأخيرة جاهزة للقتال ومستعدة له حتى الرمق الأخير، وإنما قد توظف هذه الرسالة حتى تفهم روسيا طبيعة الاحتياجات الأمنية التركية في الداخل السوري.
أيضاً يجوز القول، إن الملعب السوري مفيد للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يعاني هو وحزبه من تآكل شعبيتهما معاً، ولذلك يجد في الوجود التركي بسورية وشعارات القضاء على الأكراد وحماية الحدود التركية من الإرهابيين وكذلك إعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم عاملاً معززاً لإعادة اللحمة الوطنية، وكذلك إشغال الأتراك في هذه القضايا على حساب تفاصيل الأوضاع الداخلية، خصوصاً موضوع حبس آلاف المعترضين على سياسات أردوغان ومشروعاته الاقتصادية وسياساته الخارجية التي أربكت الاقتصاد الوطني.
كل الأطراف متحسبة لمرحلة جديدة من النزاع، وقد تكون هذه المرة أمام خيارات صعبة، ويبدو أن أنقرة قد حضرت نفسها لهذه المعركة على المستويين العسكري والدبلوماسي، دون أن تتخلى بالتأكيد عن لعبة شد الحبل التي قد تخرج منها في سورية «لا غالب ولا مغلوب».