بقلم :هاني عوكل
عشرة أعوام بالضبط مرت على الانقسام الفلسطيني الداخلي الذي ساهم في إعادة القضية الفلسطينية إلى الوراء وفقدها مركزيتها على حساب هيمنة القضايا المعيشية وأولوية البحث عن لقمة العيش والتحوط لمشكلات ندرة الكهرباء والغاز والمياه. نعم عشرة أعوام هدرت وضاعت من عمر الشعب الفلسطيني الذي زادت معاناته وتفاقمت إلى درجة خطيرة جداً، ويكفي في جردة حساب سريعة تقييم مرحلة ما قبل الانقسام عن المرحلة التي ما بعدها، بالقول إن الوطن في المرحلة الأولى لم يكن يخضع للقسمة.
اليوم الخريطة الجيوسياسية الفلسطينية ممزقة إلى درجة كبيرة، من أصحابها ومن الاحتلال الإسرائيلي الذي يستوطن يوماً بعد يوم ويسرق الأراضي في النهار والليل على وقع الانقسام الداخلي، ويستفرد بالقضية الفلسطينية كما لو أنه حصل على جائزة كبيرة جداً. فاتورة الضرر الفلسطيني من واقع الانقسام هي كبيرة ولم يعد من الممكن تحملها، إذ عدا عن الوضع الداخلي المأزوم والمهزوم هذا الذي يهدد مستقبل الديمغرافيا الفلسطينية في ظل صعوبات الحل، فإن العلاقات الفلسطينية الخارجية هي أيضاً في مربع الخطر.
"حماس" التي كانت السبب الرئيسي في الانقسام وإدامته إلى يومنا هذا، ربما لم تخضع نفسها لقراءة متأنية معمقة حول مجريات ومستقبل هذا الانقسام، وإلا كنا سنستمع إلى تصريحات واعية عن دعوات صريحة لوضع ترتيبات مستعجلة لإنهاء الخلاف الداخلي. ما تقوم به "حماس" الآن هو مناورة سياسية خارجية وداخلية لتخفيف الضغط عنها، ذلك أنها لا تريد أن تصل إلى مرحلة تسليم السلطة للسلطة الفلسطينية، ولذلك لا يبدو أن الحركة الحمساوية استوعبت درس الانقسام الداخلي وفهمت أنه رجس من عمل الشيطان.
"حماس" ليست ملاكا، بدليل أنها كانت تمقت أوسلو وتلعنه وتسبه كل الوقت، إلى جانب أنها كانت ترى في المجلس التشريعي علامة استفهام وترفض اعتباره كياناً مستقلاً خاضعا لسلطة فلسطينية تراها تحت الاحتلال الإسرائيلي، ومع ذلك مارست ما تعتبره حقها في العملية الانتخابية. استدارة "حماس" نحو المشاركة في الانتخابات التشريعية، كان بمثابة العلامة الأولى على صعيد تغير الحركة، فقد أثبتت بعد هذه التجربة أنها انتهازية بامتياز، تتطلع إلى تأمين مصالحها وتعظيم ما يمكن أن تحققه على أرض الواقع.
النتيجة طبقت على ظهر الفلسطينيين كل الفلسطينيين، ولم يكن بالإمكان وقتها الحديث عن إعادة تجربة حكم "فتح" في إطار ظواهر غير ناضجة لحركة عاقبت نفسها بنفسها، ذلك أن أصوات عديد الفتحاويين المتململين من حركتهم أسهمت في فوز "حماس" بالتشريعي. على أن الشعب الفلسطيني وقتها كان يطمع في تجريب حكومة جديدة ونظام سياسي مختلف عن التجربة الفتحاوية، ولم يكن يدرك وقتها أن "حماس" التي صعدت إلى النجومية بفعل المقاومة المسلحة، هي نفسها "حماس" التي تستخدم الأسلوب المقاوم حسب ما تمليه عليه حاجتها. الشيء الوحيد الذي تفعله "حماس" الآن هو إدارة قطاع غزة، وأما بخصوص المقاومة فإنها خاضعة لترتيبات معينة، ترتيبات تتصل بالفعل الإسرائيلي وتساهيل الرد عليه أو بظروف داخلية صعبة وحاجة إلى الخروج من عنق الزجاجة. لقد أخطأت الحركة الحمساوية حين دخلت الانتخابات التشريعية
وأخطأت أيضاً في علاقاتها الخارجية بمحيطها العربي، غير أنها لا تدفع الثمن بقدر ما يدفعه الشعب الفلسطيني، وبقدر ما يعتبر ذلك جائزة مجانية للاحتلال الإسرائيلي الذي استراح من عناء المفاوضات والضغوط الخارجية عليه وجدوى الحديث عن تنازلات للفلسطينيين. أيضاً "فتح" ليست ملاكا وهي و"حماس" أخطأتا بحق الشعب الفلسطيني، والنتيجة وجود حكمين في منطقتين جغرافيتين متباعدتين منفصلتين، والنتيجة أيضاً اتخاذ قرارات صعبة تؤثر على الشعب الفلسطيني جملةً وتفصيلاً وتضعف من عوامل صموده أمام الاحتلال. يحدث الآن في فلسطين أن لا توجد مقاومة سلمية أو مسلحة بالمعنى الجمعي التوافقي، ويحدث أيضاً أن السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية معطلة، والمقصود هنا سلطات على كامل التراب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية. يحدث أيضاً أن إسرائيل تستأسد على الفلسطينيين وتمارس سياساتها العنصرية التعسفية بحقهم، ويحدث أن الضفة بما فيها القدس الشرقية تخضع للتهويد المنهجي، ويحدث أن إسرائيل تتوسع شرقاً وغرباً في علاقاتها، وتفعل المستحيل من أجل وقف التحركات الدولية التي تسعى إلى مقاطعتها.
يحدث أن المواطن الفلسطيني المغلوب على أمره، يتطلع إلى الخروج من وطنه للبحث عن لقمة العيش وحياة آمنة تقيه من شر الانقسام ولعنة الجلطات والأمراض التي تتسلل إلى قطاع غزة بسبب الظروف المعيشية، ويحدث أن معبر رفح مغلق أغلب الوقت، في حين يعيش الناس في زنزانة كبيرة. ربما بات أولى على الفلسطينيين أن يعلنوا انتفاضة داخلية على كل مظاهر وأشكال الانقسام الداخلي، ويلزموا فصائل الانقسام العودة السريعة عنه، خصوصاً وأن عدم التحرك في هذه الظروف الحالية هو بمثابة انتحار بطيء. ينبغي أن تكون الأولوية القصوى موجهة نحو رفض الانقسام
إما بإمهال "حماس" و"فتح" وقتاً زمنياً محدداً لفتح حوار صريح وشامل ينهي مظاهر الافتراق، وإما أن على الشعب أن يتحرك بقوة لفرض المصالحة عليهما بالباع والذراع. ثمة حاجة في هذا الإطار لوجود قطب ثالث مرن وواعي تجاه حساسية اللحظة الراهنة، بمعنى قطب قادر على المناورة السياسية، يمتلك كاريزما ومقومات التأثير على الرأي العام، والأهم أنه قطب قادر على تحمل المسؤوليات الوطنية ويمتلك مرونة القيادة بتغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الشخصية.
وجود مثل هذا القطب هو أمر ضروري وملح في ظل حالة الاستقطاب التي يعيشها الفلسطينيون بين تنظيمين تغلب عليهما المصالح الشخصية، إن لم يكن قطباً يمارس العمل السياسي، فعلى الأقل قطب يمارس سياسة اللوبيات الضاغطة على أمل تصويب الانقسام وإنهاء هذه المحطة. لقد تحمل الفلسطينيون عشرة أعوام من عمرهم، لكن الله أعلم إذا كانوا ما يزالوا مستعدين لتقديم التضحيات وتحمل هذا الانقسام البغيض، لأن الأزمة الداخلية إذا طالت إلى أكثر من ذلك، فيحنها علينا أن نقول السلام على القضية الفلسطينية ومستقبلها ومستقبل من فيها. -