لا يختلف أحد من متابعي النزاع السوري على أن قمة أنقرة، التي جمعت رؤساء ثلاث دول مؤثرة فيه، يوم الأربعاء الماضي، بحثت في القواسم المشتركة التي تحقق مصالحها بهذا النزاع المتواصل منذ أكثر من سبع سنوات.
انعقاد القمة تزامن مع متغيرات كثيرة سواء على صعيد الفعل العسكري أو على صعيد التصريحات السياسية، ذلك أنها ارتبطت بكلام صدر عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي قال: إن تنظيم "داعش" الإرهابي هُزم في سورية، لكنه لا يزال يحتفظ بقدرات تخريبية من شأنها أن تطال عدداً من دول العالم.
تصريحات أميركية وفرنسية جاءت متوازية مع حديث بوتين بأنها ستبقى في سورية إلى أن تقضي تماماً على "داعش" الإرهابي، غير أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قال: إن بلاده ستخرج من سورية وأنه لا يرغب في البقاء هناك.
حديث ترامب هذا أربك مستشاريه الذين أكدوا أنه ليس هناك من جدول زمني للانسحاب الأميركي من سورية، وأن القوات الأميركية ستبقى إلى أجل غير مسمى. وما زالت القضية موضع أخذ ورد في دوائر صنع القرار الأميركي.
أيضاً هناك متغيرات طارئة على الأرض في سورية من حيث أن القوات الحكومية السورية تذهب في اتجاه حسم النزاع عسكرياً لصالحها، متقدمةً في الغوطة الشرقية وغير مستبعدة إتمام السيطرة الكاملة على المناطق المحاذية للعاصمة دمشق.
من جهة أخرى، ثمة عقدة تركيا من الوجود الكردي في الشمال السوري، إذ على الرغم من سيطرة الأولى على عفرين، لكنها ترغب بمزيد من التقدم إلى الشرق من الشمال السوري بهدف تطويق الحزام الكردي الذي يهددها من جنوبها.
في ظل هذه الأجواء، جاء انعقاد قمة أنقرة التي بحثت تحديداً في موضوع وحدة الأراضي السورية ومستقبل الحل في هذا البلد، لكن لم يغفل على المتابعين الحديث بين كل من الرؤساء أردوغان وبوتين وروحاني في قضايا تفصيلية.
مَن لاحظ الصورة التي جمعتهم وأيديهم مشتبكة ببعض سيستخلص أنهم متفقون إلى حد كبير حول الملف السوري، من حيث السكوت عن الوجود التركي في الشمال السوري لأغراض إستراتيجية تتصل بالأكراد، وتشكل في نفس الوقت صيغة مريحة للنظام السوري.
بوتين مستفيد من الدعمين التركي والإيراني في إيجاد تكتل دولي ينافس الولايات المتحدة الأميركية في سورية، وهذان الثقلان يجعلانه يناور بشكل أوسع في نقاشه مع واشنطن حول الأزمة السورية وربما مستقبلاً مصير الوجود الأميركي هناك.
وإيران أيضاً مستفيدة من وجودها في سورية على اعتبار أن ذلك يقدمها دولة إقليمية مطلعة في حلقة متصلة تبتدئ من العراق وتمر عبر سورية وتنتهي في كل من فلسطين ولبنان. وكذلك الحال بالنسبة لتركيا التي ربما فاوضت في مسألة بقائها في سورية مقابل السكوت عن تكرار سيمفونية رحيل الرئيس الأسد عن السلطة.
لا بد من ملاحظة أن القمة سبقها لقاء جمع أردوغان ببوتين على خلفية قضايا كثيرة، من بينها توسيع هامش العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، وتأكيد القواسم المشتركة والمصالح الإستراتيجية التي تجمعهما في أكثر من ملف.
الدور التركي مفيد لروسيا من أجل الضغط على المعارضة السورية المعتدلة حليفة أنقرة في القبول بتسوية سياسية تنهي الأزمة السورية على قاعدة "الرئيس باقٍ في المنصب"، ويبدو أن القمة بحثت في مسألة الاستعجال بإيجاد دستور جديد للبلاد، يعتبر المدخل الأولي لمفاوضات ماراثونية تجمع أطراف النزاع السوري.
على ذلك يمكن القول: إن القمة بحثت في المتغيرات الدولية والداخلية السورية الجديدة، ويبدو أنها تعمل على إيجاد تسوية تنسجم وهذا الثقل الثلاثي ولا تأخذ بالحسبان باقي الدول المؤثرة في المشهد السوري، مثل: الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا.
حتى أن موضوع رحيل الأسد عن السلطة وكأنه أصبح غير مطروح أو تراجعت أهميته على أجندة الدول التي تناقش في الأزمة السورية، ذلك أن واشنطن مثلاً تفحص في مسألتين: الأولى رفع شعار الحرب ضد "داعش"، والثانية دعم الأكراد وعدم تركهم لقمة سائغة لتركيا.
المرحلة المقبلة في عمر النزاع السوري لن تتركز على موضوع "داعش"، خصوصاً أنه في قمة ضعفه داخل المربع السوري، إنما ستتركز على خيارين: الأول إما إقصاء المعارضة السورية في مسلسل الحسم العسكري، أو استيعابها في إطار عملية سلمية تحقق المصلحة للجميع.
وعلى ما يبدو أن تلك المرحلة ستركز على فتح ملف التواجد الدولي داخل سورية، ومن المرجح أن تدخل الأطراف الدولية المؤثرة في المشهد السوري بترتيبات تستهدف تحقيق أجنداتها، ذلك أن واشنطن تريد شيئاً للأكراد، إما حكماً ذاتياً أو شراكة في السلطة على قاعدة التمثيل النسبي.
وسيجري تركيز روسي- تركي- إيراني من نوع آخر على مسألة الدفع بعجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في سورية، فهذان الوتران حساسان، وكلما ابتدأت مسيرة التمكين الاقتصادي وإعادة الإعمار، فإن ذلك سينعكس على الأوضاع الاجتماعية ولعله سيغير من نظرة السوريين لمجريات النزاع.
القمة بحثت في قضية إعادة الإعمار وتخفيف الأوضاع الإنسانية على المتضررين، وهناك ورشات عمل في العديد من المدن السورية لإزالة مخلفات الحرب وإعادة بناء البنية التحتية التي تهدمت بفعل النزاع المستمر منذ أوائل العام 2011.
المختصر في قمة أنقرة أن العرب يغيبون أغلب الوقت عن قضاياهم وأجندتهم الخاصة، وكأن النزاع الذي حصل في سورية هو مع بلد أجنبي وبعيد كل البعد عن القواسم المشتركة في التاريخ والحضارة والجغرافيا واللغة وغير ذلك.
وبطبيعة الحال حين يغيب العربي فيعني ذلك فراغاً كبيراً في المنطقة لا بد لقوى أخرى أن تشغله، وهذا بالفعل ما يحدث، وهو أن تركيا وإيران وقبلهما روسيا تشغل هذا الفراغ، لكن من الضروري مراجعة التاريخ وقراءة قصة "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض".