في أواخر شهر أيلول 2015 أعلنت روسيا عن التدخل العسكري في سورية، تبع ذلك مباشرةً وبعد عدة أيام، إطلاق صواريخ روسية من طراز "كاليبر" المجنحة من بحر قزوين باتجاه مواقع تابعة لتنظيم "داعش" الإرهابي، في إشارة واضحة لاستعراض القوة الصاروخية بعد هذه الضربة الأولى واصلت روسيا إطلاق صواريخها لكن على فترات متباعدة، كان آخرها إطلاق عدد منها من غواصة وسفينة روسيتين انطلاقاً من البحر الأبيض المتوسط ناحية أهداف "داعشية" في تدمر السورية.
ثمة أسباب كثيرة روسية من وراء توجيه هذا النوع من الضربات الصاروخية، فعدا أن موسكو استعرضت قدراتِها العسكرية في السماء السورية، فإنها أرادت من مثل تلك الضربات القول إنها فارضة نفسها بقوة على المشهد السوري أضف إلى ذلك أن موسكو لاحظت أن قوات سورية الديمقراطية أوقفت حملتها العسكرية على تنظيم "داعش" في محافظة الرقة، ما دفع بمقاتلي التنظيم المتطرف إلى الانحسار من الرقة وإعادة تنظيم أمورهم في جنوب المدينة.
الروس عللوا إطلاق الصواريخ بضعف التنسيق والتعاون لجهة محاربة التنظيمات الإرهابية، في إشارة إلى أنهم يرغبون في إعادة التركيز على موضوع التعاون الدولي لمواجهة "داعش" في العملية التفاوضية أستانة.
على أنه كان يمكن لهم إرسال طائرات حربية من قواعدهم العسكرية في سورية، فلماذا يلجؤون إلى توجيه ضربات صاروخية من البحر المتوسط؟ الجواب عن هذا السؤال مرده إلى أن موسكو تختبر قدراتها العسكرية في المسرح السوري، وأنها وحدها من له الحق في فرض السيطرة الكاملة على سورية.
يهم روسيا كثيراً أن تكشف عن أسلحتها المتطورة، وأن تجربها في أكثر من ميدان، لأن ذلك سيعود عليها بالمنفعة من حيث زيادة صفقات الأسلحة، والمسرح السوري شهد حضور طائرات حربية روسية حديثة مثل طراز سو 35 أس، والقاذفة الروسية سو 34 وأخرى استطلاعية من طراز تو 214 أر.
تزامن مع ذلك إرسال منظومة الدفاع الجوي الحديثة اس 400، ومعها اس 300، ودبابات متطورة من طراز تي 90، كل ذلك يهدف إلى دعم القوات الحكومية السورية في حربها مع المعارضة السورية، وهو أمر تحقق نسبياً وأدى إلى سيطرة تلك القوات على محافظات مهمة مثل حلب وحمص.
إطلاق الصواريخ الروسية جاء أيضاً للرد على الولايات المتحدة الأميركية التي سبق وأن أطلقت صواريخ من طراز "توماهوك" باتجاه مطار الشعيرات العسكري السوري بالقرب من مدينة حمص، وهو ما أثار حفيظة القيادة الروسية التي فضلت التعامل مع الموضوع بهدوء.
قبل إطلاق الصواريخ بساعات، أعلمت وزارة الدفاع الأميركية نظيرتها الروسية بنية الإطلاق، وكذلك الحال فعلت وزارة الدفاع الروسية حين أطلقت صواريخ "كاليبر"، حيث عدا الولايات المتحدة الأميركية، فقد أشعرت أيضاً كلاً من تركيا وإسرائيل.
بسياسة الإشعار هذه، فإن النية تذهب إلى استعراض القوة وليس فتح مواجهة مباشرة قد تقود إلى حرب شاملة، ذلك أن ما يحدث هو قيام كل طرف دولي بتغذية العناصر المحلية على الأرض، وحدث أن قدمت روسيا دعماً عسكرياً سخياً للنظام السوري، وكذلك فعلت واشنطن للجيش الحر والآن لقوات سورية الديمقراطية.
قد تكون رسالة روسيا الصاروخية إلى "داعش"، أن على العالم أن يتعامل بحزم مع هذا التنظيم الإرهابي، خصوصاً وأن الولايات المتحدة الأميركية تداعت مع حلفائها من الناتو في بروكسل، وأكدوا أولوية محاربة التنظيمات الإرهابية.
في العراق تتعاون واشنطن مع السلطة العراقية لمحاربة تنظيم "داعش"، بينما في سورية تعطي الأوامر لوكلائها على الأرض للمحاربة نيابةً عنها ضد ذلك التنظيم، وتشن غارات جوية مع حلفائها الدوليين، دون أن تحتاج إلى أي نوع من التنسيق أو التعاون مع الحكومة السورية وتدرك الولايات المتحدة صعوبة اللعب المباشر في الملعب السوري، بمعنى أن إعادة استعراض العضلات هناك من شأنه أن يقود إلى تحويل مسار النزاع السوري والتورط أكثر فأكثر في حرب أوسع، ولذلك نلحظ أن كل طرف دولي يلعب في محيط الحدود التي رسمها سلفاً.
روسيا في سورية والولايات المتحدة الأميركية في العراق، وفي نهاية الأمر لا هذا حل النزاع ولا الآخر مكن القيادة العراقية من تحرير أراضيه من "الدواعش"، وبالتالي فإن عامل الوقت يظل يستهلك وتستهلك معه الكثير من الأرواح والأموال والمقدرات العراقية والسورية.
استعراض الصواريخ هذا الذي تكشفت ملامحه ربما لن يتوقف، وهو بالفعل تجاوز الحدود السورية، أي أن روسيا تلجأ إلى إطلاق تجارب على صواريخ حديثة وباليستية عابرة للقارات، وكذلك الحال بالنسبة لواشنطن التي أطلقت حديثاً صاروخا دفاعيا اعتراضيا على آخر باليستي عابر للقارات.
نعم هو استعراض للقوة عنوانه سورية، المراد منه نقل رسائل ليس على الساحة السورية فحسب، وإنما على ساحات أخرى تتجاوز الجغرافية السورية، وفي النهاية يؤشر على أن ذراع الدول الكبرى طويلة وتصل إلى مديات بعيدة في إطار إدارة الصراع.
تطوير الصواريخ أمر ضروري وحساس لدى دول مؤثرة مثل الولايات المتحدة وروسيا، فهي حين تفكر في توجيه ضربة وقائية أو الدفاع عن أراضيها فإن الخيار الأمثل بالنسبة لها هو استخدام الصواريخ الاستراتيجية بعيدة المدى.
نلحظ أن دولة مثل كوريا الشمالية لم تتوقف عن تطوير نظامها الصاروخي، استفزت واشنطن وجعلتها تختبر صواريخ عابرة للقارات، بهدف التحوط من أي أزمات قد تنشأ، وكذلك الحال بالنسبة لروسيا التي دخلت في سباق مع الزمن من أجل تطوير وتمكين أنظمتها الصاروخية.
على أن سورية ستشهد في الأغلب اختبارات صاروخية روسية فقط، ولن تكون مسرحاً لنشاط أميركي صاروخي، اللهم إلا إذا جرى تنسيق بين البلدين لجهة محاربة تنظيم "داعش"، وهو مستبعد في الإطار الحالي نظراً لخلافات كبيرة بين البلدين حول الملف السوري عموماً.
ثمة مثل عندنا يقول: "إلعب وحدك تيجي راضي"، وهذا بالضبط ما أرادت روسيا أن تقوله للولايات المتحدة تحديداً، أي أنها توافق الأخيرة على محاربتها تنظيم "داعش"، وتسكت عن دور واشنطن في دعم المعارضة لتمكينها من صد هجمات القوات الحكومية السورية، لكن لن تقبل موسكو أن تدخل الولايات المتحدة في حرب مباشرة مع القوات الحكومية السورية أو تستهدفها كما حصل في صواريخ "التوماهوك".