أيام ربما تفصلنا عن نزاع الغوطة الشرقية، الذي يبدو أنه سيحسم لصالح القوات الحكومية السورية التي استعادت السيطرة على حوالى 80% من هذه المنطقة قياساً بالإحصائيات والتقارير المتداولة بشأن قتال الغوطة.
قبل أيام، كانت الحكومة التركية تعلن سيطرتها على مدينة عفرين الواقعة شمال سورية، وحيث تستنفر وتصعد لغة الكلام مع الولايات المتحدة للحصول على إجابة بشأن موقع مدينة منبج من خارطة التحرك التركي لوأد الوجود الكردي في الشمال الغربي من سورية.
حالياً أكثر ما تركز عليه وسائل الإعلام المحلية والدولية موضوعا عفرين والغوطة الشرقية، على اعتبار أن هاتين المحطتين من النزاع تشكلان انعطافة مهمة في تاريخه، وفي هذا الإطار من الضروري التوقف عند زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الغوطة الشرقية.
الأسد، في الثامن عشر من الشهر الجاري، انطلق بمركبة خاصة من طراز "هوندا أكورد" من دمشق صوب الغوطة التي شهدت على مدار الأيام الماضية قتالاً عنيفاً بين القوات الحكومية السورية من جهة والمعارضة بمختلف "طينتها وعجينتها" من جهة أخرى.
على أن زيارته إلى مدينة جسرين التي سيطرت عليها قواته مؤخراً، تشي برسائل كثيرة داخلية وإقليمية، ربما أبرزها أنه يرغب في تأكيد أن قواعد اللعبة في سورية تغيرت لصالح النظام السوري وأن الأسد هو عنوان صلابة هذا النظام.
رسائله الداخلية إلى المجتمع السوري ذهبت إلى اعتباره الرئيس الذي يطمئن على أحوال شعبه والمهتم بكل تفاصيل النزاع السوري، ذلك أنها ليست المرة الأولى التي يذهب فيها إلى مناطق سيطرت عليها قواته من تنظيمات سورية معارضة متطرفة ومعتدلة.
رسالة أخرى يريد فيها القول: إن نظامه ذاهب في اتجاه حسم النزاع عسكرياً، وأنه لا توجد هناك شرعية غير شرعية هذا النظام المدعوم من قبل روسيا، إلى جانب رسالة ثالثة يستهدف فيها تأكيد أنه يتابع عن كثب معانيات الشعب السوري وأنه مدرك لحجم المآسي التي يتعرض لها وسيدفع بقوة تجاه تحقيق انفراجة في البعد الإنساني.
أما الرسالة الرابعة فتعني أن سورية بعد تمكين سيطرة القوات الحكومية على مناطق كثيرة، بدأت تستعيد عافيتها وأمنها بالتدريج، وهذا الأمر ترجمه الأسد حين زار جسرين بمركبة خاصة ودون مرافقين، لكن مع ذلك هناك بالتأكيد تحوطات أمنية واستعدادات لمثل هذا النوع من الزيارات.
الرسائل الدولية تتداخل مع الداخلية من كون الأسد يريد أن يسوق للعالم أنه مع شعبه وأنه على الرغم من الخسائر التي تكبدها نظامه، إلا أنه لا يزال يقف على أرجله وقادر على تحقيق الأمن والاستقرار لمنطقة عانت من نزاع يقترب من عامه الثامن.
أيضاً هناك نوع من التحدي لبعض القوى الدولية المؤثرة في النزاع السوري، مثل الولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص، ذلك أن الأسد المدعوم من روسيا، بالتأكيد أشعرها بمسألة ذهابه إلى جسرين وبالتأكيد أيضاً هي من وفّر الحماية له.
رسالة التحدي هذه أن سورية مصممة على تحقيق إنجاز عسكري وأنها ماضية في استكمال إستراتيجيتها التي تنسجم ومنطق شرعية الأنظمة التي لا تقبل بأنظمة أخرى منافسة لها ولا حتى تنظيمات عسكرية تراها معادية ومصدر تهديد لوجودها وأمنها واستقرارها.
كما أن الزيارة تعني بأن الحسم العسكري مقترب جداً في معركة الغوطة الشرقية، التي ينظر إليها النظام السوري على أنها مشابهة لمعركة حلب من حيث البعدين الجغرافي والإستراتيجي الأمني، ذلك أن تحقيق هذا الحسم في الغوطة يعني بالضرورة في ذهنية النظام السوري أنه مقبل على تمكين سيطرته الجغرافية وإعادة ترتيب الأوراق الداخلية للبيت السوري، يشمل ذلك مختلف الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية.
هناك تقدير بأن النظام السوري إذا ما سيطر بالفعل على كامل الغوطة الشرقية، فمن المرجح أنه سيكمل حربه صوب بعض المناطق التي تسطير عليها تنظيمات معارضة في جنوب دمشق مثل منطقتي الحجر الأسود واليرموك.
السبب الذي جعل النظام السوري يتأخر كل هذا الوقت في حسم معركتي الحجر الأسود واليرموك، هو موضوع الأولويات الأمنية وتحديد المخاطر، إذ تشكل المعارضة المعتدلة العنوان الأهم في تصنيف النظام السوري للمخاطر.
موضوع "داعش" الذي يسيطر على بعض المناطق في الحجر الأسود واليرموك هو تحصيل حاصل للتدرج في العمليات العسكرية السورية، فمتى زالت الأخطار المهددة للنظام السوري في بنيته وأعلى هرمه السياسي، فإنه متحمس لاستكمال إعادة السيطرة على كامل المناطق في سورية.
لذلك قد تكون محطتا الحجر الأسود واليرموك بعد الغوطة الشرقية لاعتبار مهم، وهو أن تحقيق الحسم في الغوطة سيعني أن المعارضة السورية المعتدلة باتت في مرحلة الموت السريري، وهي المرحلة التي لا تجعلها قادرة على التأثير بشكل يهدد النظام السوري.
أما موضوع الحجر الأسود واليرموك فهو مهم ليس لأن النظام السوري يرغب في مسح كافة القوى التي تعاديه فحسب، بل لأن هاتين المنطقتين الجغرافيتين تقعان في العاصمة دمشق، ويرى النظام السوري أن إعادة السيطرة عليها يأتي في إطار المحافظة على الأمن والاستقرار وترسيخ شرعية هذا النظام.
في الوقت الحالي، يبدو أن النظام السوري أكثر ما يعنيه هو التركيز على ترتيب الوضع الداخلي من حيث تحقيق السيطرة الكاملة على مفاصل الدولة السورية، لكنه بعد ذلك سيسأل الولايات المتحدة الأميركية عن أسباب وجودها، كما سيسأل تركيا عن هذا الوجود، اللهم إلا إذا تدخلت روسيا وسمحت لأنقرة بممارسة دورها العسكري لتحجيم الأكراد لكن على قاعدة تبادل المنافع بينها وبين النظام السوري.
من المبكر الحديث عن نهاية الأزمة السورية مهما اشتد عود النظام السوري وزادت الجولات الميدانية للرئيس الأسد، ففي نهاية المطاف هناك قوى كبرى تحرّك هذا النزاع من مكان إلى آخر في إطار الحسم على الشكل الجديد للنظام الدولي.
سورية بعد أن تضع الحرب أوزارها بالتأكيد ستكون على موعد مع ورشة طويلة جداً من إعادة الإعمار، لكنها أيضاً ستتخلف عن الكثير من الدول في اللحاق بركب التنمية وستدفع من جيبها أموالاً باهظة لوضعها في سكة الدولة المؤثرة على الصعيد الإقليمي.
المصدر : جريدة الأيام