تفتخر رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بالدور الذي لعبته بلادها في إقامة إسرائيل، وتعلن أنها ستحتفل بالذكرى المئوية لوعد بلفور، من طرف لا يملك لآخر لا يستحق، على الرغم من أنها وحكومتها تدعم حل الدولتين! وتدرك ماي وغيرها حجم الكره الذي كانت تكنه أوروبا لليهود قبل الحرب العالمية الثانية، ويقال: إن وزير الخارجية آرثر جيمس بلفور وغيره من رؤساء الوزراء أمثال تشامبرلين ولويد جورج، كانوا يكنون الكره والعداء ليهود بريطانيا، ويعتبرون هذا الوجود مضراً بالمصالح البريطانية العليا.
ليست بريطانيا وحدها التي كانت تتخذ هذا الموقف في ذلك الوقت، بل حتى فرنسا وألمانيا لا تحبذ وجود هؤلاء وتوسع نفوذهم فوق التراب الأوروبي، ولعل هذا الأمر عجّل من إعلان بلفور إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
كل أوروبا من شرقها إلى غربها كانت تنظر إلى اليهود على أنهم جماعات عرقية لا ترغب في الاندماج بالمجتمع، وهي شديدة الحماسة للتواصل مع أجناسها في مجتمع مصغر ومُسوّر في إطار المجتمعات الأوروبية، وهذه الحياة المنغلقة، إلى جانب تنامي أدوارها على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، لم تلق القبول بين أوساط النخب الحاكمة في أوروبا الشرقية.
لقد عاش اليهود في أوروبا الغربية أوضاعاً متمايزة إلى حد كبير عن نظرائهم في أوروبا الشرقية، ففي حين بدا يهود أوروبا الغربية يتأوربون ويعملون في نشاطات اقتصادية مهمة تقدم لهمالحماية الممكنة على خلفية تحالفهم مع الطبقات النبيلة، عاش اليهود بشرق أوروبا حياةً صعبة وعملوا في نشاطات اقتصادية متدنية.
وكانت النتيجة أن هاجر عدد كبير من يهود شرق أوروبا إلى غربها، الأمر الذي استفز أولاً يهود أوروبا الغربية ومن ثم تلك الحكومات، ودفع هذا الأمر ببعض زعماء اليهود في أوروبا الغربية إلى البحث عن حلول لاستيعاب التمدد الديموغرافي اليهودي إليهم.
اللافت للنظر أن اليهود أنفسهم لم يتقبلوا بعضهم البعض في أرضٍ ليست أرضهم، إذ تصاعد الخوف من أن التمدد الديموغرافي اليهودي إلى أوروبا الغربية سيعني ضياع مصالح فئة من اليهود كانت تنظر إلى يهود أوروبا الشرقية على أنهم متخلفون عنهم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
وللتخلص من هذا العبء مع التخوف من عودة الكراهية لليهود في عموم أوروبا، فكّر بعض الزعماء من أمثال ليونيل روتشيلد وثيودور هرتزل بالبحث عن وطن قومي يجمع اليهود، في وقت شهد تحمساً أوروبياً للاستعمار الخارجي وسط أطماع لتوسيع حضورها في المشهد الدولي.
أوروبا كانت تنظر إلى اليهود آنذاك على أنهم عبء على مسيرة التطور الأوروبي اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وهذا دفع بشخص مثل بلفور للتفكير في توطين اليهود داخل فلسطين، والتخلص منهم ومن سياسة «التمسكن من أجل التمكن» التي كانت تحضر عدداً من زعماء يهود أوروبا الغربية.
وبشكل أو بآخر خدمت الحربان العالميتان الأولى والثانية الوجود اليهودي في أرض فلسطين، إذ شعر الأوروبيون والأميركان بأن عليهم حماية المشروع الصهيوني وإسناده، خصوصاً بعد ما تعرض له اليهود على يد الألمان في العهد الهتلري.
وإلى هذا اليوم، تحلب تل أبيب ألمانيا حلباً بسبب محرقة هتلر، فلم تتوقف التعويضات المالية من أجل التكفير الألماني عن هذا الفعل، وحيث استثمرت إسرائيل المحرقة الاستثمار الأمثل، ورفعت يافطة طويلة عريضة أمام العالم، بأنها تعيش حتى هذه اللحظات كابوس نتائج الحرب العالمية الثانية.
وبعيد الحرب العالمية الثانية، زادت القناعة الأوروبية بضرورة إعطاء اليهود وطناً ودولة يسكنوها في فلسطين، كنوع من التعويض عن سوء سلوكهم، وفي ذات الوقت استثمار وجود الدولة العبرية لضرب المشروعات الوطنية والقومية العربية التحررية.
ماي فرحة لأن بلادها أهدت اليهود وطناً قومياً يعيشون فيه على حساب الفلسطينيين أصحاب الأرض، وهي غير مستعدة للاعتذار عن وعد بلفور، وفي ذات الوقت تناقض نفسها حين تؤكد بأنها مع قيام دولة فلسطينية مستقلة تعيش إلى جانب إسرائيل.
مثل هذا السلوك يعكس موقف بريطانيا الثابت تجاه دعم إسرائيل، كما هو حال الولايات المتحدة التي تقف بـ»الباع والذراع» مع الدولة العبرية، إذ يشهد التاريخ أن الحكومة البريطانية ظلت تدعم تل أبيب كل الوقت، وانحازت لكل مشروعاتها التوسعية الاستيطانية.
ويشكل الدفاع البريطاني عن وعد بلفور حماية لإسرائيل وقبول ومباركة لكل ممارساتها العنصرية والاحتلالية في فلسطين، خاصةً وأن هذه الدولة حمت المشروع الصهيوني منذ ولادته، في حين كمّلت الولايات المتحدة الأميركية هذه المسيرة.
بالتأكيد تتحمل بريطانيا مسؤولية كبيرة عن الأذى والضرر البالغ الذي أصاب الفلسطينيين بسبب سياساتها، إذ نتيجةً للحماية الأميركية والبريطانية والغربية للمشروع الصهيوني، استأسدت إسرائيل أكثر من اللازم، وصادرت حقوق الفلسطينيين وداست على قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالموضوع الفلسطيني.
ثم إن لندن تتغزل بفكرة أنها الدولة التي أسهمت في ولادة إسرائيل، وأنها أول من حمى ورعى المشروع الصهيوني، غير أن اليهود اكتفوا ببريطانيا بعد انحسارها في الحرب العالمية الثانية، ونقلوا مركز قوتهم إلى حيث تركّز جهدهم بتأمين حضور قوي في قلب الولايات المتحدة الأميركية.
ولا تختلف لندن عن واشنطن في الدور المتعلق بحماية الدولة العبرية، فكلتاهما وجهان لعملة واحدة، إذ تنظران إلى الوجود الإسرائيلي على أنه ضروري لحماية مصالحهما، فالأصل أن تل أبيب تقوم بدور استعماري استعبادي يعبّر في المضمون والجوهر عن العقيدتين الأميركية والبريطانية.
ستحتفل ماي وشركاؤها بوعد بلفور المزعوم، دون أن تشعر بالذنب للكُلف التي ترتبت على تأسيس إسرائيل، هذه التي دفع ثمنها الفلسطينيون جميعاً، فحتى هذه اللحظة هم يدفعون ثمن هذا الوعد، والأولى أن تعيد بريطانيا التفكير في سياساتها وتُكفّر عن هذا الذنب.
على أن بريطانيا لن تفعل ذلك ولا يتوقع الفلسطينيون أن تقوم بذلك، فتيريزا ماي ليست الأم تيريزا، ويُعرف عنها حبها للدولة العبرية، إلى درجة أن متحدثاً باسمها انتقد وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري حين انتقد سياسة نتنياهو بسبب الاستيطان، واعتبرها «أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل».
ويبدو أن تصريح ماي حول الاحتفال بمئوية بلفور، إشارة ورسالة قوية بأنها مع إسرائيل بالحق والباطل، وهي رسالة للرئيس الأميركي ترامب الذي دعا الإسرائيليين إلى الصمود لحين دخوله البيت الأبيض. إن الطرفين «في الهوا سوا». من قال ماي مع حل الدولتين!! إنها مع «إخصاء» هذا الحل.