بقلم : رجب أبو سرية
من شأن ما أقدمت عليه الولايات المتحدة من تهدئة في الملف الكوري الشمالي، أن يطلق يدها أو أن يتيح لها المجال أكثر لتسخين ملفات أخرى، والأقدام على ترتيب ملفات عالقة منذ سنوات أو حتى عقود مضت، وربما كان الشرق الأوسط هو المنطقة التي ستشهد قدرة أميركية أعلى على التحرك والتسخين، خاصة على جبهة العنف العسكري، فيما من المحتمل أن يرافق فتح جبهة الشرق الأوسط أو الاستمرار في تسخينها والإبقاء على جمر نارها متقدا، فتح جبهة الحرب الاقتصادية مع الحلفاء الأوروبيين وحتى روسيا والصين.
ما يهمنا هو ما تفكر به الإدارة الأميركية تجاه ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي من جهة، ومن جهة أخرى ملف الشرق الأوسط برمته، وحيث أظهرت هذه الإدارة منذ ستة أشهر بشكل واضح وصريح انحيازها بشكل غير مسبوق للاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي انعدمت الثقة الفلسطينية بها كطرف خارج دائرة الصراع الثنائي، لذا فإن ما يخص خطتها لإعادة ترتيب الشرق الأوسط، أو إعادة نفوذها على أكمل وجه فيه، هو ما يجب أن يأخذ حيزا من الاهتمام والمتابعة.
ولقد حصرت هذه الإدارة التي تبدي قدراً من السذاجة السياسية، على القول ومنذ أكثر من عام بأن هناك خطة شاملة لاحتواء الشرق الأوسط، ترتكز على محور حل ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، لكن تفاصيل أو حتى إطار هذه الخطة لم يعلن طوال ذلك الوقت، أي أن البيت الأبيض جعل من إعلانه الدائم عن وجود «صفقة العصر» بمثابة سيف مسلط على رقاب المعنيين في المنطقة، دون أن يعلم أحد بالضبط ما هي بنودها أو حتى متى سيتم طرحها، بل لا أحد كان متأكداً طوال الوقت من أنه سيتم طرح الخطة في نهاية المطاف.
الآن، تم الانتقال إلى الخطوة التالية، فقد تحول الحديث داخل أروقة الإدارة الأميركية من كونها تقوم بإعداد الخطة، إلى الحديث عن البحث عن التوقيت المناسب لطرحها، أي أنها قد صارت جاهزة، وها هما كل من جيسون جرينبلات المبعوث السياسي الخاص لدونالد ترامب للشرق الأوسط، وصهره جاريد كوشنير، كبير مستشاريه السياسيين يزوران المنطقة من أجل هذا الهدف بالتحديد.
من الواضح أن الإعلان عن الخطة ومن ثم محاولة البحث عن التوقيت المناسب لطرحها على الملأ، مرتبط بالظروف على الأرض، أي أن واشنطن التي تعرف أن المستوى الرسمي والشعبي الفلسطيني يرفض الخطة، ويرفض التعامل معها، وهي بالتأكيد تريد طرح خطة من أجل تنفيذها وليس من أجل الاستخدام الإعلامي، لذا فإن قدرة الجانب الفلسطيني على مواجهة الخطة أو على إعلان الثورة ضدها حين طرحها هو مربط الفرس، تماما كما حدث قبل ستة أشهر، أولا حين أعلن ترامب عن انصياعه لقرار الكونغرس بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، ثم حين تشجع بسبب انحسار ردود الفعل العربية والإسلامية الغاضبة أو المعارضة للقرار، الذي ترك أمر تنفيذه معلقا، ولم يحدد الموعد منذ البداية، بل كان تحدث أكثر من مرة بأن القرار لن ينفذ قبل نهاية العام الحالي، وحين أدرك عودة العرب والمسلمين إلى البيت بعد خروج احتجاجي لم يقلب الطاولة، قام بتنفيذ القرار في ذكرى النكبة المشؤومة، وحتى دون أن يكون السفير نفسه جاهزاً للإقامة في القدس، فقد كان «التوقيت» فرصة، لم تتردد واشنطن في استغلالها كما يجب.
بتقديرنا، ليس هناك من عامل ضغط على الإدارة الأميركية وإسرائيل سوى ما يحدث في قطاع غزة، من حراك، بدأ في الثلاثين من آذار الماضي، ووصل ذروته في منتصف أيار، وكان يمكن له أن يتواصل، لولا أن حماس أعادت حساباتها جيدا، بعد اتصالات خارجية، وبعد تراشق صاروخي مع قصف إسرائيلي ما بين يومي الجمعة الذي تلا منتصف أيار والذي سبق الخامس من حزيران.
الذروة التي حدثت منتصف أيار أقامت الدنيا على رأس إسرائيل، وحشرت مجدداً واشنطن في زوايا الأمم المتحدة، في مجلس الأمن حيث صوتت منفردة ضد مشروع القرار الكويتي الذي طالب بتوفير حماية دولية للشعب الفلسطيني عقب المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل بحقه يوم الرابع عشر من أيار، ثم مع سبع دول أخرى - كالعادة - في الجمعية العامة.
لذا فإنه بتقديرنا، إن خطة العصر الأميركية التي تهتم بالطبع بإعادة تموضع النفوذ وحتى الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، وبالتوافق مع إسرائيل، ستقدم ما تعتبره تنازلا فيما يخص ملف غزة، لأنها ستتجاوز الحق الفلسطيني وحتى الموقف الفلسطيني الخاص بحل الدولتين في الضفة الغربية.
والأهم هو أنها ستكون بمثابة إعلان حرب على إيران، من خلال الإعلان عن تشكيل تحالف أمني/عسكري في الشرق الأوسط، يضم إسرائيل ودولا عربية، وقد يفتح الباب أمام تركيا، التي لن تكون واشنطن معنية بمشاركتها منذ البداية في الخطة، للانضمام لاحقا، بما يذكر بحلف بغداد في خمسينيات القرن الماضي، الذي أقيم من أجل مواجهة حركة التحرر العربي، ومن أجل مواجهة جمال عبد الناصر ومحاربة مصر التي كانت تقود تلك الحركة في المنطقة.
لعله من الواضح أن الدفع الإسرائيلي بهذا الاتجاه، ما زال متواصلاً، حيث طالبت إسرائيل مؤخراً بخروج القوات الإيرانية من سورية، ووجهت تحذيراً للرئيس السوري بأنها ستستهدف كل وجود إيراني وحتى لحزب الله على الأرض السورية، ما يعني أن إسرائيل لن تسمح لسورية بالتقاط الأنفاس أو بإعادة فرض سيطرة الدولة على أراضيها، وفقط إسرائيل التي لا تقيم وزناً للأخلاق بل للقدرة العسكرية تقرّ بالوجود الروسي، وتفاوضه، ولا تتعامل بنفس الطريقة مع الوجود الإيراني، تماما كما هي حال توأمها الروحي، الأميركي ترامب الذي رضخ للكوري لأنه قوي ويمتلك السلاح النووي، فيما الضعفاء تدوسهم أقدام الإسرائيليين والأميركيين الذين لا وجود للأخلاق الإنسانية في قاموسهم العدواني.