سبق لحركة حماس أن اتفقت مع إسرائيل عبر أكثر من وسيط دولي، على أكثر من اتفاق لوقف إطلاق النار، أو للتهدئة بينها وبين إسرائيل، بل وأن توصلت لأكثر من اتفاق لتبادل الأسرى، أيضا عبر الوسطاء، عربا كانوا أو أجانب، ودون أن تكون السلطة الرسمية حاضرة أو مشاركة في جملة تلك الاتفاقات، ذلك أن كل ما سبق من اتفاقات أو تفاهمات كان عبر وسيط، أي لم يكن بشكل مباشر بين حماس وإسرائيل، كذلك لم يكن على أي شكل من أشكال الاتفاقيات الدولية المكتوبة أو الرسمية، لذا لم تحتج السلطة، لأنها كانت ترى في اتفاقات وقف النار التي كانت عادة ما تتبع حربا إسرائيلية مدمرة على غزة، درءا لشلال الدم والدمار الذي كان يلحق بسكان قطاع غزة، جراء مغامرات الحروب التي كانت تجري بين حماس واليمين الإسرائيلي لتعزيز سيطرة الطرفين السياسية، كل في بلده.
ثم لأن طبيعة تلك الاتفاقيات كانت دون مستوى الاتفاق السياسي، الذي يمس ثوابت المشروع الوطني ويلحق بها الضرر.
هذه المرة الأمر مختلف تماما، فالخلط من جهة، والجرأة في الإفصاح من بعيد عن بعض أهداف الاهتمام بملف غزة، خاصة من قبل الجانب الإسرائيلي والأميركي، من جهة ثانية، يسعى إلى إما الدخول مباشرة في «مفاوضات بديلة» تجعل من قطاع غزة، الملف الفلسطيني، وتختصر المطالب الفلسطينية بإنهاء احتلال القدس والضفة وعودة اللاجئين وإقامة الدولة الموحدة على أرض 67، في كسر الحصار عن غزة، وربما في استبدال دولة فلسطين على أرض 67 بكيان غزة.
ونقصد بالخلط، أن ما يجري طرحه وتداوله يتراوح بين عرض كسر الحصار عن غزة مقابل هدنة طويلة الأمد، والتي تكون عادة بين الدول، كما حدث في أعقاب حرب 48 بين إسرائيل وكل من مصر والأردن ولبنان وسورية، وكذلك في أعقاب حرب 73، فالهدنة إنما هي اتفاق سياسي يكون بين طرفين يتمتعان بالسيادة كل على الأرض التي يسيطر عليها، وهي قد تبدأ برعاية طرف ثالث، لكن التوقيع عليها يكون بحضور الطرفين في ظل كفالة الطرف الثالث.
وهذا تقريبا هو جوهر المبادرة الأممية التي يقول بها المبعوث الأممي إلى الشرق الأوسط نيكولاي ميلادينوف، والتي تتضمن تنفيذ بنودها بالتدريج من أجل إقناع الطرفين وضمان نجاح التنفيذ، في الوقت الذي تصر فيه إسرائيل على الخلط بين وقف النار وكسر الحصار وتحرير الأسرى من مواطنيها وجثث جنودها لدى حماس، فيما الأطراف الفلسطينية خاصة من حلفاء حماس أو شركاء القسام من المجموعات المسلحة وفصائل غزة، أكثر وضوحا حين تجتمع على التهدئة ووقف النار، وترفض خلط بنود التهدئة وشروطها مع بنود الهدنة واستحقاقاتها.
المشكلة تكمن في أن أعز هدف لدى حماس هو كسر الحصار، لذا فإن تحقيق هذا الهدف، لا يمكن أن يكون دون ترتيبات أمنية وسياسية نهائية، تضمن أمن إسرائيل، وعدم وجود أي احتمال لتعرضها «للخطر» الأمني، في الوقت الذي تحقق لها فيه المكسب السياسي، وهو أن تقام دولة فلسطين في غزة فقط.
توافق إسرائيل إذا أو ترغب في هدنة طويلة الأمد، على شكل «أوسلو خاص بحماس»، تضمن من خلالها تحرير أسراها، ونزع سلاح غزة، وكذلك إقامة كيان صغير وتحت السيطرة ولا خطر محتملا من وجوده في المدى البعيد.
فيما الفصائل الفلسطينية تفضل التهدئة، ولا تختلف عليها، وإن كان الجميع يدرك أن إسرائيل ما زالت تلعب داخل الملعب الفلسطيني نفسه، فكلما اقترب الضغط على حماس من استجابتها لاستحقاقات إنهاء الانقسام، تقوم إسرائيل بالتلويح بجزرة ما لحماس حتى تتراجع، وبات هذا الدرس محفوظا عن ظهر قلب لأن إسرائيل فعلت هذا أكثر من مرة وطوال الوقت منذ أحد عشر عاما والى الآن.
وقد قامت فتح بعقد اتفاقيات أوسلو باسم (م.ت.ف) وليس باسم فتح، كذلك قامت من قبل فصائل مثل الجبهة الشعبية - القيادة العامة بعقد صفقات تبادل الأسرى دون أن يعني ذلك تجاوز (م.ت.ف)، وهذه المرة يمكن لحماس أن تتوصل لتهدئة وحتى لصفقة تبادل الأسرى، لكن التوصل لهدنة أو اتفاق سياسي/أمني/إنساني حول غزة، ليس من حقها، ولا يجوز لها ولا بأي شكل أن تقوم به أو حتى أن تفكر فيه.
طبعا ما زال إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة الداخلية هو المدخل المثالي للرد على إسرائيل في كل ما يخص ملفات: التفاوض، والتهدئة، وحتى الهدنة وكسر الحصار عن غزة، والذي في حال تحقيقه فإن الجانب الفلسطيني بطرفيه، أي بحماس وفتح والسلطة، ينتقل من موقع الدفاع الذي بالكاد يحقق صداً للهجوم الميداني الإسرائيلي أو الهجوم السياسي الأميركي - كما حدث مع محاولة طرح صفقة القرن - إلى موقع الهجوم، الذي بعد وقت سينجح في تفكيك التحالف اليميني الإسرائيلي الحاكم ومن ثم إسقاطه.
وما لم يحقق الجانب الفلسطيني الإنجاز الداخلي، فلن يقوى على انتزاع شيء ذي شأن من إسرائيل، وكل ما سيكون هناك أو هنا مجرد وهم، حيث إن الرادع لإسرائيل يبقى دائما هو القوة العسكرية والسياسية، فهي لا تحترم لا اتفاقيات ولا مواثيق، وخير دليل على ذلك اتفاق أوسلو مع (م.ت.ف)، واتفاقية صفقة وفاء الأحرار أو صفقة شاليت مع حماس، حيث إن إسرائيل أغلقت الباب أمام تحول المرحلة الانتقالية للمرحلة النهائية خلال خمس سنوات، كذلك أعادت اعتقال معظم من قامت بتحريرهم من سجونها من أسرى حماس وفق صفقة وفاء الأحرار.
أي أنه على حماس أن لا «تملأ يدها» من وهم تحرير غزة مقابل هدنة طويلة الأمد، تنتج عنها إقامة «كيان مستقل» ليس فقط عن إسرائيل ولكن بالأساس عن محمود عباس والسلطة والضفة الغربية والقدس، وهذا هو الخط الأحمر، الذي سيجعل من حماس في حال ذهبت في هذا الاتجاه بمثابة مجرم سياسي في نظر الشعب الفلسطيني، حتى لو جعلت من قطاع غزة سنغافورة الشرق الأوسط فعلا، بل إن أهل غزة أنفسهم لن يقبلوا حياة الرفاهية الخاصة إذا كانت على حساب حق عودة اللاجئين وعلى حساب تحرير القدس وحرية الضفة الغربية.