بقلم: رجب أبو سرية
لأنه لم يتم وضع حد للانقسام خلال أكثر من أحد عشر عاماً، ولأن الانقسام رغم أنه مستوى أقل وأدنى من الانفصال، كرس على الأرض سلطة موازية في جزء شاء القدر السيئ أن يكون منفصلاً جغرافياً عن باقي الوطن الفلسطيني الذي هو أصلاً وطن محتل من قبل العدو الإسرائيلي الخارجي، فإنه مع استمرار الانقسام بقي خيار "الانفصال" هو الخيار الأسوأ بل هو الطامة الكبرى التي تصيب المشروع الوطني الفلسطيني من حيث هو مشروع تحرر وطني، مشروع إقامة الدولة المستقلة على الأرض المحتلة منذ عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية مع حق عودة اللاجئين الفلسطينيين المهجرين عنوة عام 1948 إلى ديارهم، وتعويضهم، وتحويله إلى مجرد مشروع سلطة وحكم يظفر به فصيل يقيم "دويلة" على اقل من نصف بالمئة من مساحة فلسطين التاريخية، يقطن فيها نحو 15 % من الشعب الفلسطيني.
وفي ظل عدم قدرة السلطة على إنهاء الانقسام الواقع منذ عام 2007، رغم كل ما أبدته من صبر طوال سنوات ومن حزم خلال الفترة الأخيرة، إلا أن عدم انغلاق الملف الفلسطيني على أطرافه الداخلية حال دون أن يغلق هذا الملف على ما يشتهي الكل الوطني، فإسرائيل تلعب بحكم أولاً وجودها الجغرافي بين جناحي الوطن الفلسطيني المحتل، وثانياً بحكم أن السلطة أصلاً ليست دولة لديها القوة الكافية لفرض القانون بالقوة، وحتى أن إسرائيل وأميركا وحتى دول المنطقة لا تسمح للسلطة بفرض الوحدة بالقوة العسكرية، لأنها أصلاً تمنع السلطة من التسلح .
المهم أن الفصل الأخير من حوارات أو بمعنى أدق محاولات مصر جسر هوة الشقاق وتوحيد شطري الوطن الفلسطيني، إلا أن الأمور قد تدهورت لمجرد أن امتلكت حماس ورقة مسيرة العودة، التي حركت بها المياه الإسرائيلية الراكدة، ففتحت المجال أمام نيكولاي ميلادينوف، المبعوث الأممي السابق لتقديم مبادرته بالتوصل إلى تهدئة أو هدنة بين إسرائيل و"حماس" دون المرور عبر السلطة الرسمية .
وفي الحقيقة أن حماس "أخلصت" لبرنامجها السياسي الحقيقي المتمثل بإقامة سلطتها وحكمها الخاص والمنفصل منذ أن دخلت انتخابات العام 2006، وهي فضلت في العام التالي أن تنفصل بحكم غزة تماما، على الشراكة في حكم كل الوطن الفلسطيني، حين أقدمت على الانقلاب العسكري الذي احدث الانقسام، وظلت تراوغ في ملف المصالحة، وفرضت إدارة الانقسام طوال السنوات الماضية، وكانت تشترط لإنهاء الانقسام أن تنفرد بحكم كل الوطن الفلسطيني، وكانت أمام خيارين لا ثالث لهما وهما: إما التحكم بكل مقاليد السلطة والمنظمة في كل الوطن الفلسطيني أو التفرد بغزة، بل وجعلت من سيطرتها على غزة، منصة لمحاولة الوصول لهذا الهدف، لأنها تدرك كم هو موجع واقع الانقسام على خصمها السياسي الداخلي.
وحتى حين كانت تمر بالضائقة إن كان على صعيد الحلفاء الإقليميين أو على صعيد الأوضاع الداخلية لقطاع غزة، كانت تفضل أن تجعل من معاناة الناس ورقة الضغط والمساومة، حتى لو وصل الأمر لوقوع الحروب مع إسرائيل وان تجعل من معاناة غزة المستمرة، منصة للبقاء متشبثة ببرنامجها السلطوي.
وحين بدأت كل من إسرائيل وأميركا تعلن صراحة عن رغبتها بالدفع بالأمور إلى انفصال غزة تماما ورسميا عن الوطن الفلسطيني، فان حماس لم تعلن رفضها لكل ما يعلن بهذا الخصوص، بل كانت تعلن منذ عام 2007، شعاراتها المركزية العامة ومضمونها أو محتواها هو كسر الحصار عن غزة، أي "تحرير غزة" ليس من الحصار الإسرائيلي وحسب، بل ومن تبعيتها للسلطة .
ولو كان الأمر غير ذلك، لسعت إلى وضع الخطط والبرامج مع الشقيق الداخلي من أجل كسر الحصار ضمن المشروع الوطني، وليس من خلال العلاقة مع تركيا أو قطر أو غيرهما، ولقالت بوضوح بان كسر الحصار بشكل تام وحقيقي لا يكون إلا من خلال إنهاء الاحتلال، تماما كما تنظر لملف الأسرى الذي ترى انه يمكن أن يغلق من خلال صفقات التبادل وليس من خلال إنهاء الاحتلال .
ولأنه من الصعب جدا على حماس الإعلان صراحة _الآن _ عن قبول التفاوض مع إسرائيل وأميركا ضمن خطة صفقة العصر، على إقامة دولة غزة تحت سيطرتها وحكمها، وذلك لأنها ستواجه حربا داخلية يشارك فيها الشعب الفلسطيني بأسره، فإنها تجد في مدخل الحديث عن "تجاوز السلطة" ممرا أو مخرجا لتحقيق ما حدث بينها وبين اليمين الإسرائيلي وفي مقدمته حزب الليكود من توافق سياسي بدأ منذ عام 1994، على إسقاط "أوسلو" ومعه "م ت ف" و"فتح" وإحلالها مكانها في قيادة الشعب الفلسطيني.
يبدأ الأمر اليوم بإدخال الوقود القطري عبر التفاهم بين قطر وإسرائيل وتحت يافطة الأمم المتحدة، التي قد يكون وجودها "حلا انتقاليا"، إلى أن تعلن غزة في المرحلة النهائية كياناً مستقلاً تحت إدارة "حماس" أو عبر انتخابات لاحقة، ويقول الناطق باسم "حماس" بأن هذه الخطوة ستتبعها خطوات لتخفيف الحصار وقد تمت عبر تفاهمات، واضح أن مقابلها هو الهدوء في غزة، أي وقف احتجاجات العودة .
مربط الفرس هو تجاوز السلطة، وهكذا تدخل قطر من الشق الخلفي للتخريب على مصر التي ما زالت تسعى من أجل إغلاق ملف الانقسام وفق مصلحة المشروع الوطني، فيما قطر تواصل دور العرّاب الذي يقوم "بتوضيب" حماس لتكون مقبولة على اليمين الإسرائيلي، ولتكون تابعها الإقليمي، أو كما هو حال "حميميم لروسيا" تكون غزة منصة التواصل القطري بأوروبا، وقاعدتها المتقدمة بجوار مصر، أو بيدقها المتقدم في لعبة شطرنجها السياسية في المنطقة.