بقلم : رجب أبو سرية
أن يلغي وزير المخابرات المصرية، السيد عباس كامل، زيارته إلى غزة، وأن يغادر الوفد الأمني المصري، الذي كان قد سبقه إليها، القطاع، لم يكن فأل خير على الإطلاق؛ فقد كانت تلك المحاولة المصرية هي الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أيام قادمة سوداء، كقرن الخروب، على قطاع غزة خاصة، ومن أيام مقبلة، صعبة للغاية على مجمل القضية الفلسطينية بشكل عام.
حقيقة الأمر، أن التحرك المصري جاء بعد أن تقدمت قطر من وراء الستار بتوافق غير معلن بين "حماس" وإسرائيل، مضمونه خفض مستوى الحراك الحدودي على السياج الفاصل مقابل إدخال الوقود اللازم لزيادة تشغيل محطات توليد الكهرباء، الأمر الذي تم خلال الأسبوع الماضي، وصولاً إلى يوم الجمعة الذي شهد تصعيداً متبادلاً، حين اجتازت مجموعة شبان السياج لتواجه بإقدامٍ الجيشَ الإسرائيلي؛ بسبب قتله سبعة شباب، ما سخّن من الملف وجعله على صفيح ساخن للغاية، الأمر الذي دعا مصر، وهي تستبق انعقاد المجالس القيادية الفلسطينية؛ خشية أن يتم طي ملف المصالحة نهائياً، إلى إرسال الوزير المصري والوفد الأمني إلى كل من رام الله وغزة.
مع مرور الوقت، يتضح تماماً الفارق بين الرعاية المصرية للشأن الداخلي الفلسطيني والتدخل القطري؛ فحيث إن مصر حافظت طوال الوقت على تلازم ملفي التهدئة والمصالحة معاً، وعلى عدم تجاوز "حماس"، في سعيها لكسر الحصار عن غزة، السلطة والرئيس محمود عباس، لإغلاق الباب على الانفصال، فإن قطر ما زالت تدفع "حماس" بالاتجاه الآخر، وهو ممر التفاوض المباشر الذي يؤدي إلى انفصال غزة عن الضفة الغربية وعن كل ملفات الحل النهائي وعن السلطة والرئيس عباس.
وقد جاءت المفارقة التي من شأنها أن توضح الكثير من الاصطفافات الإقليمية التي تمس بالشأن الفلسطيني، والتي تمثلت في حدوث واقعة اختفاء الصحافي السعودي الإخواني، جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية بإسطنبول التركية، حيث جعلت تركيا من الواقعة قميص عثمان للتنديد بالسعودية؛ لإضعاف موقفها الإقليمي وحتى للمسّ بتحالفها مع الولايات المتحدة، فقد أطلقت تركيا جوقة الإعلام الإخواني المارق على النظام المصري؛ لخلق رأي عام إقليمي ودولي ضاغط على المملكة السعودية، رغم أن طاقم الجوقة هم من المصريين وليس بينهم سعودي واحد، ولم يتعرض الطاقم الإعلامي، إلى حقيقة أن تركيا، وهي تراقب بأجهزتها ما يحدث لخاشقجي ليكون كبش فداء، كان بإمكانها أن تتدخل لحظة تعرض حياته للخطر.
المهم أن قطر وتركيا، بالتناوب، تتابعان سياسة العداء لكل من مصر والسعودية، ليس من بوابة الاختلاف على الموقف تجاه إسرائيل أو أميركا، بل بدافع الصراع على النفوذ الإقليمي، حتى لو أن الأمر وصل إلى المسّ بالمصالح الوطنية الفلسطينية، وحيث إن مصر أولاً، وعلى نحو خاص، ما زالت تقف على قاعدة جمع الكل الفلسطيني، فإن متابعة السياسة القطرية وملاحظة استمرار تدخلها بالشأن الفلسطيني الداخلي دون المرور بالبوابة الشرعية، تثبت أن قطر إنما تقف ضد المصلحة الفلسطينية الوطنية العليا.
كذلك، فإن إضعاف موقف السعودية، خاصة أمام الابتزاز الأميركي الذي اتضحت معالمه كثيراً في عهد ترامب، سيؤدي إلى أن تدفع المملكة الثمن، ليس مالاً هذه المرة، بل قبول صفقة العصر، التي لا بد أن تترجم بالضغط على كل من الرئيس محمود عباس وعلى الأردن؛ لتمرير صفقة التصفية التي اقترب موعد طرحها كثيراً، فيما مهمة قطر هي تهيئة "حماس" لتكون طرفاً وشريكاً في تمرير الصفقة.
بالعودة إلى السبب الذي دفع اللواء كامل لإلغاء زيارته إلى غزة، والوفد الأمني المصري لمغادرة القطاع، فقد كان إطلاق صاروخي جراد من غزة إلى بئر السبع بالنقب، ومن ثم إطلاق صاروخ آخر باتجاه عسقلان، أمراً محيراً ومستغرباً، خاصة أن "حماس" اضطرت _لأول مرة في تاريخها_ إلى استنكار واقعة الإطلاق.
لا نرجح أن تكون "حماس" الرسمية ترقص على الحبلين هذه المرة، أو أنها تجر شكَلاً، لكن المرجح هو أن وصول الأحوال إلى مفترق الطرق قد جعل من شقة الخلافات الداخلية بين قياداتها وأجنحتها تصل إلى حد الغليان؛ فهي على الأقل، حتى إن كانت هناك مجموعة مارقة أو منشقة أو مجموعة مسلحة أخرى هي التي أقدمت على إطلاق الصواريخ، كما حدث في حادثة تفجير موكب رامي الحمد الله وماجد فرج، فإن سيطرتها الأمنية المطلقة على القطاع، تجعلها قادرة على تحديد الفاعل، ومحاربته أو الإعلان عنه. لكن بما أنها لم تفعل، ولن تفعل على الأغلب، فإن الأقرب إلى العقل والمنطق هو أن الواقعة كانت تعبيراً فاضحاً عن خلافاتها الداخلية، وأن الجانب المقرب من قطر أراد التخريب على التدخل المصري، ففعل ما فعل، وهو يدرك أن الصواريخ لن تقتل إسرائيلياً واحداً، لكن هدفها كان هو الوساطة المصرية.
تماماً كما تفعل في سيناء، فهي تواصل محاولة الضغط على مصر أمنياً في محافظتها الشمالية الشرقية، وتزيد عليها مواجهة نفوذها في غزة، لذا فقد كان الأمر مناسبة لأن يتراجع وزير الأمن الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان وأن يأمر بوقف إمداد غزة بالوقود، بل وإغلاق كل المعابر بينها وبين إسرائيل، في انتظار اجتماع الكابينيت؛ خصيصاً للرد، ربما بالموافقة على حرب أو عملية واسعة ضد قطاع غزة.
الأسوأ في ظل هذه الحالة قادم لا محالة، حيث ينتظر غزة "طحن" سياسي وعسكري، كذلك ينتظر الحالة الفلسطينية كلها ضغط سياسي كاسح من أجل أن ترفع الراية البيضاء، حيث لا مفر إلا باجتراح المعجزة الداخلية، باندلاع انتفاضة شعبية تطيح بالانقسام وليس فقط من أجل إنهاء الاحتلال بشكل مباشر.