كما لو كان ثوراً هائجاً، بدا دونالد ترامب، منذ دخوله البيت الأبيض قبل عامين، فما أن أعلن عن فوزه في انتخابات الرئاسة الأميركية حتى بدأ "ينطح" كل من بالجوار، وبدأ يصدر المراسيم التي تحد من الهجرة، والمعادية للمسلمين، ثم واصل سياسته اليمينية المتشددة، في حقل التجارة الخارجية، والأسوأ كانت مواقفه وقراراته الخاصة بملف الصراع متعدد الفصول والبنود في الشرق الأوسط .
وكان واضحاً بأن عهد ترامب يمثل "انقلاباً" على ثوابت السياسة الأميركية إن كان على الصعيد الخارجي، خاصة فيما يخص الصراع الفلسطيني / الإسرائيلي، حيث انقلب على موقف البيت الأبيض الثابت تجاه القدس، وأخرج بلاده من موقف الراعي لعملية السلام، وعلى الصعيد الخارجي، بدأ في تصعيد الموقف إلى مستوى التهديد بالحرب مع كوريا الشمالية، ومن ثم إيران، وفتح أبواب حروب التجارة مع الجارة كندا، ومع الحليف الأوروبي، ومع الخصم العنيد الصين.
بدا ترامب كما لو كان دون كيشوت القرن الحادي والعشرين، يحارب طواحين الهواء، بهدف إعادة الزمن والعصر البشري إلى عهد الامبريالية، وحيث انه كان محكوما بعقدة خاصة تجاه سلفه الديمقراطي باراك اوباما، فانه أراد أن يلغي كل ما أصدره سلفه من مراسيم رئاسية خاصة بالتأمين الصحي ورعاية كبار السن، لذا فقد اتسعت دائرة خصومته السياسية، وفتحت عليه أبواب التشكيك في قدرته أو أهليته الرئاسية، إن كانت تلك المتعلقة بالتدخل الروسي في تحديد خيارات الناخبين لصالحه، أو فيما يخص أخلاقه ومشاكله مع "ممثلات الإباحية" وعلاقته النسوية السابقة .
اعتمد ترامب أولاً على طاقم متصهين في البيت الأبيض، ومن ثم على بنيامين نتنياهو من أجل تأمين بقائه في البيت الأبيض، كذلك على ما قام بسلبه كقاطع طريق أو كفتوة عالمي من أموال دول الخليج العربي، لكن كان عليه بعد عامين من دخوله البيت الأبيض، أن يواجه أول اختبار متمثل في الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي.
بدت تلك الانتخابات هذا العام كما لو كانت "ملحقا" لانتخابات الرئاسة السابقة، أو كما لو كانت "بروفة لانتخابات الرئاسة القادمة، حيث قاد الفريق الديمقراطي الرئيس السابق باراك اوباما، وقاد الفريق الجمهوري الرئيس الحالي دونالد ترامب، وكانت النتيجة هي فوز الديمقراطيين بأغلبية مجلس النواب، واحتفاظ الجمهوريين بأغلبية مجلس الشيوخ .
ورغم أن الأغلبية في الكونغرس السابق كانت للجمهوريين، إلا أن ترامب نفسه عدّ النتيجة أو اعتبرها نجاحا هائلا، بالنظر إلى انه كان يتوقع هزيمة ماحقة لحزبه، أي خسارة الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، لكن رد فعل الرجل لا يعبر عن حقيقة الأمر، فالأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب، ستكون بمثابة كابح لجماح ترامب وعائق أمام استمراره في سياسته الانقلابية على ثوابت السياسة الأميركية الداخلية أولا والخارجية ثانياً.
وفي قراءة عاجلة لنتيجة انتخابات الكونغرس، يمكن القول بان الأقليات انحازت للديمقراطيين، وبعد أن كان السود واليهود يصوتون تلقائيا قبل عقود للحزب الديمقراطي، أصبح اليوم المسلمون والهنود الحمر، إضافة إلى السود بالطبع، وربما معظم الأميركيين من أصول غير أوروبية بمن فيهم الآسيويون مصوتين للحزب الديمقراطي، والسبب هو ما أظهره ترامب من عداء للمهاجرين ولكل الأقليات والأصول العرقية غير البيضاء، والدليل هو حصول _لأول مرة_ امرأتين مسلمتين واحدة من أصل صومالي والأخرى من أصل فلسطيني على عضوية الكونغرس، وكذلك امرأة ثالثة من سكان البلاد الأصليين.
هذا أول الغيث الديمقراطي بتقديرنا، فقد نجح خصوم ترامب بعد عامين فقط، أولا في إعادة التوازن للنظام الرئاسي الأميركي، حيث أن البرلمان لا يشكل الحكومة التي تبقى حكومة الرئيس، لكنه يمكنه أن يعطل كثيراً من مراسيم وقرارات الرئيس، وثانياً في إعادة الروح للحزب الذي سيواجه ترامب في معركة الرئاسة بعد عامين، فان نجح في "شل" حركته خلالهما، فانه سينجح في إخراجه من البيت الأبيض بعد عامين من الآن.
ولعل قدر ترامب المحافظ أن يواجه روح التجديد والتحديث الأميركية، فبعد أن واجه احتمال انتخاب أول سيدة كرئيسة في الدورة السابقة، سيواجه زعيمة الأغلبية الديمقراطية السيدة نانسي بيلاسي، التي توعدته بفرض الضوابط والمحاسبة على إدارته التي نص عليها الدستور.
بقي أن يجد ترامب الكابح الخارجي، وهذا قد يظهر بعد أيام في باريس، إذا ما نجح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في "فرض" خطة بديلة لخطته التي أطلق عليها اسم صفقة القرن، وإذا ما استمر الحضور الإقليمي القوي لروسيا في الشرق الأوسط، فيما استمرت المتاعب لحلفاء ترامب في المنطقة، نظراً لتعدد الخصوم على الصعيد الكوني لرجل ربما كان ظهوره في البيت الأبيض يمثل آخر ظهور امبريالي للولايات المتحدة.
المهم هو أن شوكة الرجل قد انكسرت، وان الشعب الأميركي قد قال كلمته بتوبيخ الرجل، وانه قد وجه تحذيرا شديد اللهجة، إن لم يكن كافياً لتراجعه عن سياساته الحمقاء في كل الاتجاهات، فانه سيقوم بكسر رقبته بعد عامين من الآن، في الانتخابات الرئاسية القادمة، حيث يمكن إن بقي دون إحداث أول سابقة في تاريخ الولايات المتحدة متمثلة بإقالة الرئيس، فانه سيحدث سابقة لم تحدث منذ نحو ثلاثين عاماً، وهي أن لا يتم التجديد للرئيس بولاية ثانية، الأمر الذي لم يحدث بعد منذ ولاية جورج بوش الأب، أي خلال ولايات بيل كلينتون، جورج بوش الابن وباراك أوباما.