رغم أن الحكومة الإسرائيلية لم تعلن صراحة إلغاء قرارها بهدم بيوت قرية الخان الأحمر، إلا أن قرارها الذي اتخذته قبل أيام بوقف قرار الهدم، يعتبر مؤشرا على أن حكومة إسرائيل إذا ما رأت «العين الحمراء» فإنها تتراجع، وإنها ليست مطلقة القوة أو إنه لا حدود لقدرتها على اتخاذ القرارات وتنفيذها، رغم وجود إدارة منحازة جداً وتماماً لها في البيت الأبيض بواشنطن.
«والعين الحمراء» التي نقصدها هنا، كانت عبارة عن توحد عدة عوامل مقاومة وصمود، وقفت في وجه جرافات الهدم الإسرائيلية ومنعتها من تنفيذ قرارها الإجرامي، كان في مقدمتها، صمود مواطني الخان الأحمر الباسلة والمتطوعين، كذلك دعم الأجهزة الأمنية وفي مقدمتها الأمن الوطني الفلسطيني، ثم الموقف الدولي، الأوروبي خاصة، كما أشار الوزير وليد عساف.
وبالإشارة إلى الموقف الأوروبي كان لافتا تحذير المدعي الرئيس لمحكمة الجنايات الدولية في لاهاي السيدة فاتو بنسودا من أن التدمير الشامل للممتلكات دون ضرورة عسكرية وتهجير السكان عنوة في أراضٍ محتلة يعتبر جرائم حرب، ما يعني أنه كان يمكن في حال التنفيذ «جر» قادة إسرائيل إلى المحكمة الدولية بهذه التهمة.
هذا من الجانب الجنائي أو القضائي، أما من الجانب السياسي، فإن دعوة رئيسة الحكومة البريطانية تريزا ماي إسرائيل إلى عدم هدم القرية لأن ذلك لا يساعد في حل الدولتين، كان مهما أيضاً، فمعروف أن إزالة القرية كان من شأنه أن يشطر الضفة الغربية إلى نصفين، شمالي وجنوبي، بما يعني قطع الطريق تماما على الحل السياسي.
والموقف البريطاني في حقيقة الأمر مختلف تماما عن المواقف الأوروبية الأخرى، ونعني الموقفين الفرنسي والألماني مثلا، وهو يؤثر كثيرا على الموقف الأميركي ويؤخذ كثيرا بعين الاعتبار لدى الحكومة الإسرائيلية.
المهم أن تأخير تنفيذ قرار الهدم في الوقت الذي لا يعتبر فيه نهاية للمعركة، يعتبر انتصارا للإرادة الفلسطينية حين يتم التركيز على قضية محددة فيها كل عوامل النصر، ويتم فيها اعتماد المقاومة الشعبية التي بدأت تظهر منذ وقت وفي أكثر من مناسبة، لتحدد معالم إستراتيجية الكفاح الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال في الفترة القادمة.
مجموعة من الانتصارات المتتابعة يمكنها أن تراكم نقاط القوة لدى الشعب الفلسطيني، بدءا من إجبار إسرائيل قبل نحو عام ونصف العام على التراجع عن إقامة الحواجز الالكترونية حول المسجد الأقصى لاختزال عدد المصلين بالحرم القدسي الشريف، مرورا بالكفاح ضد قانون «يهودية الدولة» العنصري، وصولا إلى مسيرة العودة على حدود قطاع غزة، كذلك الانتصارات السابقة لمعارك الأمعاء الخاوية من قبل الحركة الوطنية الأسيرة، كل ذلك يمثل البوصلة للقوى السياسية المتحكمة بالفعل المقاوم الفلسطيني، وتشكل دليلا إضافيا مفاده أن الوحدة الوطنية والمقاومة الشعبية يمكنهما ليس فقط أن تفرضا التراجع على حكومة اليمين الإسرائيلي، بل وكذلك على الإدارة الأميركية.
ورغم الحالة العامة الصعبة جدا بسبب الانقسام الداخلي، إلا أن الصمود السياسي الرسمي، وما يبديه الشعب من مقاومة سلمية في نقاط مواجهة محددة، يظهر المدى الذي يمكن أن يصل إليه الشعب الفلسطيني، رغم كل ما هو قائم على الصعيدين الإقليمي والدولي، من قوة يمكنها أن تفرض على إسرائيل الانسحاب من ارض دولة فلسطين، والتسليم بإقامة الدولة المستقلة في نهاية المطاف.
وفي الحقيقة، فإن الدوران في دهاليز الحوارات الداخلية والخارجية، والتنقل ما بين طرقات الفنادق والصالات المغلقة، ما هو إلا مضيعة للوقت، فالوحدة تتحقق في الشارع وفي ميدان مقارعة العدو، وليس من خلال القدرة على تنميق الكلام، أو رفع الشعارات أو الحديث عن صراع البرامج والمقولات وما إلى ذلك، ولا بد أن يكون معيار الجدارة بالقيادة هو الاستعداد ومن ثم القدرة على التضحية، كذلك تلازم التفاوض مع العدو بفعل مقاوم ميداني، فكما أن إسرائيل لا تتوقف عن متابعة الاستيطان والاستمرار في كل الإجراءات الاحتلالية، حتى وهي تفاوض، فلا بد أن يواصل الشعب الفلسطيني مقاومته للاحتلال، حتى وهو يفاوض.
ولابد عند الحديث عن الشراكة السياسية من أن يكون المقصود ليس الشراكة الثنائية بين «فتح» و»حماس» ولا حتى بين مجموع الفصائل، ولكن أن يكون المقصود هو أن الشراكة تتحقق أولا في الشارع ومع الناس، وثانيا، على المستوى الشعبي وليس في إطار النخب التي «تحترف» العمل السياسي وكأنه صار مهنة ولم يعد عملا وطنيا، يدفع صاحبه في سبيله الغالي والرخيص.
في المدى المنظور، يقول درس الخان الأحمر، إن المعركة مع الاحتلال لم تنته بعد، وإن البيت الأبيض ومن ورائه الحكومة الإسرائيلية لا يقرران مصير الصراع وحدهما، ولا يحددان مستقبل القضية والشعب الفلسطينيين، بل انه يظهر أن حل الدولتين لم يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد، كما يحاول العدو أن يروج، ليفت من عضد القيادة والشعب الفلسطينيين، ويدفعهما إلى فعل انتحاري أو إلى رفع الراية البيضاء.