بقلم : رجب أبو سرية
لم يضع الرئيس الأميركي دونالد ترامب «صفقة القرن» على الرف، ولم يقم بحفظها بين طيات النسيان، وهو إذ يظهر أنه رئيس مختلف عن سابقيه - حين قام بتمرير قرار الكونغرس المعطل بفضل المراسيم الرئاسية السابقة والخاص بنقل السفارة إلى القدس والاعتراف بها كعاصمة للاحتلال الإسرائيلي - فإنه يسعى للتأكيد أنه رئيس مختلف بإكمال المشوار وحل الملف الشائك والمعقد، وقد عاد مؤخراً «لبث الروح» في صفقته المرتقبة بعد أن أحاط بمصيرها الغموض بعد جولة مبعوثيه إلى الشرق الأوسط قبل بضعة أشهر.
أن يؤكد ترامب شخصياً أن القدس باتت خارج ملف التفاوض، وأن إسرائيل ستدفع ثمن هذا، يعني أنه ما زال يصر على المضي قدماً بصفقته، رغم معارضة الجانب الفلسطيني، منذ نهاية العام الماضي، للصفقة قبل أن تعلن، بل ورفضه الاتصال به وبطاقمه التفاوضي، ورغم ما قد يحدث من معارضة إسرائيلية لاحقة، جرّاء ما يوحي به هو وطاقمه على الأقل.
يبدو أن حديث ترامب ورجاله عن فرض التنازل على إسرائيل، على الأغلب، هو من باب الدعاية السياسية للصفقة، لكن بالنظر إلى تركيبة الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الحالي، فيمكن القول: إن بعض تفاصيل أو بنود الخطة، ستجد رفضاً من بعض شركاء نتنياهو و»الليكود»، خاصة «البيت اليهودي»، الذي يرفض أي انسحاب من الضفة الغربية وأي شكل من أشكال الحكم الذاتي، فضلاً عن مسمى دولة فلسطينية فيها، بل ويطالب بسرعة الإعلان عن ضمها لدولة إسرائيل.
المهم أنه بعد جولة كل من جاريد كوشنير وجيسون غرينبلات للدول العربية ذات العلاقة والاهتمام المباشر بالملف الفلسطيني، نعني مصر والأردن والسعودية، وبعد أن لمس استحالة إعلان الصفقة فضلاً عن تمريرها وتنفيذها دون مشاركة الطرف الفلسطيني، يبدو أن واشنطن تفكر جدياً بالبديل الفلسطيني الذي يمكنه أن يقبل ما ترفضه م ت ف، والرئيس محمود عباس.
فقط تحتاج واشنطن إلى التوقيت المناسب وإلى الشريك «الفلسطيني» الممكن، ولأنه عند الحديث عن بديل عباس، على الأقل في الوقت الحالي، أي في ظل وجود الرئيس عباس شخصياً، ليس هناك من هو أفضل أو أنسب من «حماس»، فمن الطبيعي أن يفكر البيت الأبيض بها كمشارك في تنفيذ الصفقة.
التوقيت المناسب التالي بعد الإعلان سابقاً عن أكثر من توقيت، وبهدف الإبقاء على فكرة الصفقة قائمة، هو ما بعد انتخابات الكونغرس التكميلية، التي ستجري في تشرين الثاني القادم، خشية أن يؤثر الإعلان سلباً على حظوظ مرشحي الحزب الجمهوري، حين يرى بعض عناصر اللوبي الانتخابي اليهودي فيها ما يمس بمكانة إسرائيل، أو ما يمكن أن يحدث جراءها من «برود» مع بعض شركاء الائتلاف الإسرائيلي الحاكم، كما أسلفنا.
لن يطول الوقت_بتقديرنا_ حتى يعلن عن وجود قناة تفاوض سرية ربما، بين «حماس» وبعض الشخصيات أو حتى ممثلي «الليكود»، كما حدث قبل أكثر من ربع قرن بين ممثلي حركة «فتح» وحزب العمل والتي أدت إلى أوسلو رغم وجود مفاوضات مدريد_واشنطن حينها.
وقد يكون المدخل هو ما يحدث عبر الوسطاء الآن من حديث لا يقتصر كما كانت الحال في السنوات السابقة على صفقة تبادل الأسرى، بل عن مستقبل قطاع غزة، حيث مقابل كسر الحصار الذي تفرضه إسرائيل، وهو نوع وشكل من أشكال الاحتلال على أي حال، من الطبيعي أن يكون هناك مقابل سياسي على «حماس» أن تقدمه لإسرائيل مقابل فك الحصار.
والمقابل الأثير والمقبول على كل الإسرائيليين هو فك الارتباط أولاً بين غزة وباقي بنود الملف الفلسطيني، من احتلال الضفة الغربية إلى القدس إلى اللاجئين، وهي البنود الصعبة إلى درجة الاستحالة على إسرائيل أن تقبل «التنازل» فيها، ولعل بعد حادثة اجتماع المكتب السياسي لـ»حماس» بكامله في غزة قبل شهر، وتفويض «القسام» للقيادة السياسية بأن تتخذ ما تراه مناسباً لفك الحصار، ما يجعلنا نعتقد بأن هناك احتمالاً لتحقق هذا السيناريو.
معروف أن وزيرة العدل عن حزب البيت اليهودي، أيليت شاكيد هي من عطلت مضي الطرفين، أي «حماس» وإسرائيل في طريق مبادرة ميلادينوف، والتي كانت مبادرة أشمل من تبادل الأسرى، ولا تشترط تحقيق المصالحة، بل إن مصر هي من فرضت هذا التلازم، بين المصالحة والتهدئة أو الهدنة.
من يدري ربما كانت «حماس» الآن بحاجة إلى «عراب داخلي» يقابله «عراب إسرائيلي» لشق قناة تفاوضية بين الطرفين، وربما يحدث هذا عبر الوسيط القطري، الذي ما زال يعمل من أجل هذا بعيداً عن التداول الإعلامي، وفي تنافس واضح مع مصر حول من يمكنه منهما، أن يحتوي «حماس» وأن يؤثر على قرارها.
أخيراً، لا نعتقد بأن هذا السيناريو بحاجة إلى حدث جلل في الضفة الغربية، لأنه ليس مطلوباً من «حماس» الجلوس مكان محمود عباس، ولا التحدث باسم الشعب الفلسطيني كله، ولا التفاوض حول مستقبل الضفة الغربية أو القدس أو اللاجئين، بل فقط حول مستقبل قطاع غزة، لكن أولاً عليها أن تواصل إغلاق أبواب إنهاء الانقسام، ومنع عباس من سحب هذه الورقة من بين يدي إسرائيل، لذا فإننا نرجح أنه في حال إعلان صفقة ترامب فإنها ستتضمن الحديث عن غزة كمشروع دولة، وعن توسيع الحكم الذاتي في الضفة الغربية، بما قد يشمل توسيع المنطقة (أ)، ونقل مقر السلطة من رام الله إلى أبو ديس مثلاً، أي تطوير الحالة الانتقالية القائمة، مقابل تطبيع العلاقة رسمياً بين إسرائيل وكل العالم العربي، والمضي قدماً بتظهير الاحتلال وتبرئته من جرمه وجريمته المستمرة منذ أكثر من خمسين سنة.