بقلم : رجب أبو سرية
بعد اجتماع قمة دول منظمة المؤتمر الإسلامي في إسطنبول التركية، الأربعاء الماضي، استضافت طهران، أمس، لجنة فلسطين التابعة لاتحاد البرلمانات الإسلامية بحضور رؤساء برلمانات العراق وإيران ومالي، ما يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن تداعيات وردود الفعل على إعلان الرئيس الأميركي قبل أسبوعين اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ما زالت قائمة، بل وتتصاعد يوماً بعد يوم، وأن الإعلان لن يمر على خير للولايات المتحدة قبل غيرها.
في الحقيقة، أن تتصدر كل من تركيا وإيران للرد على الإعلان الأميركي يعتبر _بتقديرنا_ أمراً في غاية الأهمية، ذلك أنه وإزاء تقاعس الرد الرسمي العربي، بسبب حالة الانقسام التي عليها الحال العربية الرسمية، فإن دخول أنقرة وطهران على الخط لملء الفراغ، على الأقل، يعتبر أمراً مهماً ومفيداً جداً للقضية الفلسطينية، كما أن كلاً من إيران وتركيا تعتبران دولتين ذات وزن ثقيل في العالم الإسلامي كما أنهما، إضافة لمصر والسعودية وإسرائيل تشكلان مجموعة الدول الإقليمية المؤثرة في الشرق الأوسط.
من الطبيعي أن تظهر إيران كدولة تعارض السياسة الأميركية في المنطقة، خاصة في ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، لكن أن تظهر تركيا، الدولة التي كانت تعتبر دائماً ضمن حلف الناتو، الدولة الإسلامية الوحيدة التي تعترف بإسرائيل، يبدو أمراً في غاية الأهمية، لأنه يدل على تطور سياسي، فيما يمكن وصفه، بظاهرة الاصطفاف الكوني لتشكيل النظام العالمي الجديد، نظام ما بعد الحرب الباردة.
بعد انهيار جدار برلين وتدخل الولايات المتحدة حتى بشكل عسكري لإسقاط أنظمة الحكم الشيوعي في أوروبا الشرقية وتفكيك الدولة الاتحادية فيها (يوغوسلافيا، تشيكيا)، ظنت واشنطن ومعظم العالم أن النظام العالمي الجديد قد أقيم على أساس القطب الواحد، أي بقيادة الولايات المتحدة منفردة، وقد نامت واشنطن على وسائد من حرير، حين تلاعبت بالقرار الروسي، خاصة أيام بوريس يلتسين، لكن مع مرور الوقت بدأت خارطة العالم تتغير، فظهر الاتحاد الأوروبي، وتعافت روسيا من الانحلال الذي تبع انهيار الحزب الشيوعي، وتعاظمت قوة الصين التي أضافت لقوتها العسكرية والسياسية قوة اقتصادية هائلة.
وأظهرت إيران منذ العام 1979 تحدياً للولايات المتحدة، كذلك تعاظم التحدي الكوري الشمالي للدولة التي ظنت أنها بسطت يديها على كل العالم، وظهرت فنزويلا/ تشافيز كدولة خارجة عن الطوع الأميركي في الحديقة الخلفية لواشنطن، وبقيت كوبا كذلك خارج الجيب الأميركي، ثم ظهرت حركات شعبية تظهر العداء لواشنطن، خاصة بعد أن تورطت الولايات المتحدة بشن حروب لمحاولة إخضاع العالم مجدداً، في أفغانستان والعراق، ظهرت القاعدة بشكل أساس في أفغانستان، ومن ثم ظهر «داعش» في العراق، أي أنه بالوضع الطبيعي، دائرة عدم قبول السلطة الكونية الأميركية تتسع ولكن بشكل غير عنيف، أما حين تندفع واشنطن في شن الحروب فتظهر حينها الحركات المقاتلة ضدها.
وفي الحقيقة حتى «القاعدة» و»داعش» لا بد من دراستهما جيداً، ذلك أنهما أولاً وأخيراً عبّرتا عن احتجاج ضد النظام العالمي الجديد وقاتلتا ضد أنظمة حكم محلية، والمهم أنهما كانت تضمان أعضاء من كل جنسيات العالم، بما فيه الغربي، الأوروبي والأميركي.
وحيث إن التفاعلات عقب الإعلان الأميركي الأهوج، لم تتوقف، بل هي كمثل كرة الثلج تتدحرج وتزداد اتساعاً يوماً بعد وفي كل مكان، فإن استمرار القيادة الفلسطينية في التحرك الدولي_حيث من المتوقع أن تصوت الجمعية العامة للأمم المتحدة، اليوم على حق تقرير المصير، بدعم من دول عدم الانحياز، التي يبدو أن الهجوم السياسي الأميركي على الحق الفلسطيني في القدس قد أعاد إحياء هذه المنظمة الدولية المهمة جداً_ والداخلي أمر ضروري جداً، لأنه يشجع الحراك الشعبي، ويبقي على التعاطف الكوني في الوقت نفسه.
لعل وصول الاحتجاجات الشعبية إلى أستراليا وأن تظهر هذا الحجم من الاتساع في أوروبا، في فرنسا وبلجيكا والنرويج، يبين أن قضية فلسطين ما زالت تمثل بؤرة الوجدان العالمي، وهذا في الحقيقة يلقي على الكاهل الفلسطيني عبئاً إضافياً، ذلك أن قضية فلسطين لا تعتبر قضية محلية وحسب، بل هي عنوان وكلمة سر للحرية في العالم بأسره.
أي أن الكفاح الفلسطيني يمنح الأمل لكل محبي الحرية والعادلة الإنسانية في العالم، حتى يستمروا في الكفاح من أجل كرة أرضية أفضل، ولا شك عند معظم البشر في أن العالم الأفضل ليس لقيادة أميركا له فيه مكان، أي أن دائرة الاحتجاج ضد الإعلان الأميركي هي في الحقيقة تعبر عن احتجاج كوني لقيادة أميركا للعالم، وتعتبر بمثابة ثورة عالمية شعبية، ضد استبداد الدولة الأميركية تجاه العالم، وضد جبروتها الذي ظهر على أكثر من صعيد، منها إضافة إلى شن الحروب، دفع الفجوة بين الأغنياء والفقراء للأتساع بشكل فلكي، حيث بفضل انتصار أميركا في الحرب الباردة ظهر المليارديرات، على حساب مئات ملايين البشر الجوعى والمرضى في كل مكان.
تظهر واشنطن _الآن_ ضعفاً سياسياً، حتى في مواجهتها لكوريا الشمالية، ولن نستغرب إذا ما رأينا أن الإعلان الترامبي الأهوج كان سبباً في فشل صفقة القرن، وفي فشل واشنطن في احتواء إيران، بل ودفع تركيا إلى مزيد من الابتعاد عن عباءتها، ولا شك في أن حلفاء الولايات المتحدة العرب، سيضعف الإعلان من نفوذهم وتأثيرهم الإقليمي، وسيزيد من قدرة كل من طهران وأنقرة على زعامة العالم الإسلامي، بما فيه العالم العربي، خاصة إذا ما توصلتا إلى تفاهم مشترك، كما حدث في سورية، العالم العربي يعتبر _ وحده تقريباً _ العالم الذي هو في الجيب الخلفية لواشنطن، بما فيه من مليارات ومن استبداد، ومن تبعية تامة لأسوأ دولة، كانت تحظى بكراهية نصف العالم في الحرب الباردة وتحظى الآن بكراهية العالم بأسره.