بقلم : رجب أبو سرية
يبدو أن الولايات المتحدة، حالها مثل حال أنظمة الاستبداد الشائخة عندنا، لا تدرك أن العالم يتغير مع ثورة الاتصالات العالمية، ومع تقدم المجتمع البشري، وتداخله، خاصة بعد سقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة، وهي ما زالت تتعامل بفوقية وفي أفضل الأحوال بأبوية مع دول العالم وشعوبها، وتظن بأن العالم كله قد بات مطبوعاً على ثقافتها البراغماتية، التي لا مكان فيها للأخلاق، وأن كل شيء محسوب بالدولار والقوة العسكرية، فلا قوة أخرى غيرها، مثل قوة الأخلاق أو القانون أو العدالة.
وفي الحقيقة فإن افتقار الجمهوريين للديناميكية أكثر من الديمقراطيين الأميركان، فقد فوجئ جورج بوش الأب، عام 1990_ بل ربما فوجئ معظم الأميركيين بمن فيهم الحزب الديمقراطي المنافس، حين رشح مقابل انتخاب بوش الأب لولاية ثانية، المغمور وقتها بيل كلينتون، لأنه كان يظن بأن فوز بوش أمر مرجح _ بخسارته في انتخابات الرئاسة، التي جاءت بعد انتهاء الحرب الباردة رسمياً، وانتصار الولايات المتحدة بعد نحو نصف قرن من الصراع الكوني مع الاتحاد السوفياتي، في عهده، ولم يخطر ببال الرجل بأن انتهاء الحرب الباردة يعني أن تذهب كل رموزها وأدواتها، بمن فيهم رمز حرب النجوم، رونالد ريغان، الذي كان بوش الأب يعتبر امتداداً له، خاصة وأنه خاض حرب الخليج الأولى بنفسه.
لا تفهم أميركا أن أحد مظاهر الحرب الباردة كانت الصراعات الإقليمية في غير مكان، ومنها إسرائيل ذاتها التي أقامها الغرب عام 1948، دليلا على الاستعمار الجديد، حيث تولتها بريطانيا أولاً ثم الولايات المتحدة بالرعاية لهذا السبب، وأن إقامة إسرائيل ومن ثم احتلالها لما تبقى من أرض فلسطين عام 1967، واستمرار احتلالها وعدم وضع حد له طوال خمسين سنة، ما هو إلا مظهر فج للصراع الكوني، ولمخلفات الاستعمار القديم والسيطرة بقوة السلاح وجبروت القهر، الذي لم تعد البشرية تقبله الآن، بعد أن دخلت عالم الوحدة الكونية.
نقول هذا الكلام بمناسبة أن الولايات المتحدة التي تقدم نفسها باعتبارها الدولة المسؤولة عن العالم، والتي تقوده إلى رحاب العولمة، أي الوحدة الكونية المجتمعية والاقتصادية، لكنها تتصرف مثل طفل غبي لا يعرف ما يريد ولا ما هي مصلحته، فحتى المختار، وأي كبير للقوم يتصرف بعقل وتعقل، ويراعي الأغلبية من الناس، ولعل هذا ألف باء النظام الديمقراطي الذي تروّج له واشنطن طوال الوقت، لكن أن تتصرف واشنطن كبلد شاذ عن العالم في العديد من المناسبات فهذا أمر لا يدل إلا على ضيق أفق وعلى أن واشنطن شيئا فشيئا تفقد مكانتها العالمية، وأن الوقت لن يطول حتى يطالب العالم بتغيير نظامه السياسي، خاصة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة .
تكفي هنا الإشارة إلى أن الولايات المتحدة قد اتخذت 42 حقا للنقض/الفيتو في مجلس الأمن منذ عام 1973 لحماية إسرائيل ضد مشاريع قرارات تدين احتلالها لأرض دولة فلسطين (بمعدل كل عام فيتو)، وكان آخرها ضد مشروع القرار الذي اعتبر إعلان رئيسها دونالد ترامب القدس المحتلة عاصمة لإسرائيل غير شرعي ومنافياً للقانون الدولي.
في الحقيقة أن المتغير المهم جدا والملفت للنظر، هو أن أميركا عادة ما كانت تصطف إلى جانب الأقلية المحدودة فيما يخص القرارات التي تتعلق بملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، في الجمعية العامة التي تعتبر قراراتها غير ملزمة، كما هو حال قرارات مجلس الأمن، وحيث يوجد ممثلو دول العالم كافة، وكانت في الحرب الباردة عادة ما تجد فيها سببا لأن تصوت إلى جانبها دول الغرب، هذا على اعتبار أن العالم كان منقسماً بين معسكرين، وان إسرائيل كانت تحسب على الغرب الرأسمالي، فيما فلسطين كانت تحسب كحركة تحرر وطني على المعسكر الاشتراكي .
الآن الأمر اختلف، فصرنا نرى أميركا وإسرائيل وحدهما مع عدة دول صغيرة بل مجهرية لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، تصوت ضد مشاريع القرارات التي تسعى للدفاع عن الحق الفلسطيني في وطنه في الجمعية العامة ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل وصل التغيير إلى ما يجري من تصويت في مجلس الأمن، فأن تصوت 14 دولة من أصل15 دولة بما فيها فرنسا وبريطانيا مع مشروع القرار آنف الذكر الذي يدين إعلان ترامب بشأن القدس، ووحدها الولايات المتحدة تستند إلى حقها بالنقض، وإلى أن هذا الحق قد أحبط مشروع القرار، يعني أن المغزى يجب أن يدرك جيدا، فذلك يعني أن الولايات المتحدة باتت دولة معزولة تماماً عن العالم، خاصة فيما يخص ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، وأنها باتت تنتمي لعصر مضى وأن عليها أن تنتفض من داخلها وإلا فان القطار سيفوتها، قطار العالم الكوني المتحد والمتجانس والذي يسير باتجاه المساواة والعادلة بين بني البشر.
ترامب شخصيا يمثل أسوأ نموذج للقهر والخوف والكراهية، وهو قد جاء بالعديد من المراسيم الرئاسية التي تثير الرعب وتقيم جدران الكراهية بين الأميركيين وغيرهم من مسلمين ومكسيك وكوريين وغيرهم . لذا فإنه قد يكون آخر رئيس بهذا المحتوى للولايات المتحدة، أو انه سيكون سببا في انكفاء دولته وانحسار نفوذها العالمي.
لعل الفارق بين هذا وبين سلفه قد اتضح قبل عام من الآن، حين كان هو قد فاز بنتيجة انتخابات الرئاسة ولم يدخل بعد البيت الأبيض، فكان أن أوعز باراك أوباما بالامتناع عن التصويت ضد مشروع القرار 2334 الذي صدر بذلك عن مجلس الأمن وطالب إسرائيل بوقف الاستيطان. لعل فلسطين التي تنتصر دائما أخلاقيا لأنها على حق، تفتح الأبواب المغلقة داخل الولايات المتحدة قبل أن يفوتها الوقت، ولأن النصر صبر ساعة، فإنه سيكون إلى جانب فلسطين في نهاية المطاف، وما إسرائيل إلا إلى زوال، وما سطوة أميركا إلا إلى زوال أيضاً.