بقلم : رجب أبو سرية
اللحظة التالية لإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، اعتراف بلاده بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، هي اللحظة التي فكّر فيها الأميركيون جيداً، وعملوا لها ألف حساب، لذا فقد طلبوا من الإسرائيليين أولاً ألا يظهروا الكثير من البهجة، ولا الكثير من ردود الفعل الصاخبة، وفي الوقت نفسه، قاموا بإعداد خطة تفصيلية لاحتواء ردود الفعل الفلسطينية والعربية والإسلامية، وعلى المستويين الرسمي والشعبي.
ولعل واشنطن ظنت أن الإعلان بشكل مقتضب يمكن أن يقلل من ردود الفعل الغاضبة، أو أن يجعله يمر مرور الكرام، كذلك فكرت واشنطن بخبث، باصطياد الموقف الفلسطيني، الذي هو بمثابة حجر الزاوية في الرد على الإعلان الأميركي، وذلك أولاً من خلال إقدام الرئيس الأميركي على إبلاغ الرئيس محمود عباس قبل يوم من الإعلان بمضمونه، ومن ثم دعوته لزيارة واشنطن بعد الإعلان، ثم بإعلان زيارة نائب ترامب مايك بنس، الرجل الذي ظهر وراءه وهو يعلن قراره المذكور، والذي يقال: إنه كان مع السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان_ الرجل الذي بمجرد اختياره سفيراً للولايات المتحدة في إسرائيل، كان أعلن نيته الانتقال بمسكنه للقدس، والذي لم يتوقف منذ ذلك الوقت عن إظهار كل ما يمكن أن يشير إلى تعاطفه مع المستوطنين والاحتلال الإسرائيلي، وليس مع إسرائيل وحسب_ مع القرار بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل مقابل معارضة كل من وزير الخارجية ريكس تيلرسون ووزير الدفاع جيمس ماتيس.
من الواضح أن الموقف الرسمي الفلسطيني والعربي، قد جاء منضبطاً، وذلك لامتصاص الصدمة، والتقليل من الخسائر الناجمة عنها، كذلك من أجل عدم مضاعفة الغضب الشعبي، والذي كان يمكن له أن يتسبب في سقوط عشرات الضحايا من الشبان الفلسطينيين، خاصة أن إعلان ترامب قد جاء يوم الأربعاء الماضي أي قبل أقل من يومين على يوم الجمعة، حيث يتجمع عشرات الآلاف للصلاة في المسجد الأقصى.
والأهم هو أن من يفهم بالسياسة يعلم أن الإعلان قد صدر، وأنه صدر عن واحدة من أهم وأقوى دول العالم، التي لا مصلحة للفلسطينيين في تحطيم كل جسور العلاقة معها، خاصة في ظل أفراد متصهينيين، بل إنهم يظهرون كما لو كانوا يمينيين متشددين وحتى متطرفين إسرائيليين/يهود في الإدارة الأميركية، يحاولون أن يدفعوا البيت الأبيض لسحق السلطة الفلسطينية سياسياً، والدليل على ذلك هو جملة القرارات التي يقوم باتخاذها الكونغرس والخارجية إضافة للبيت الأبيض، ضد السلطة، إن كان تلك المتعلقة بحجب المساعدات المالية، أو إغلاق مكتب م.ت.ف.
أي أن إعلان ترامب الذي جاء بعد مائة عام من وعد بلفور، قد فتح الباب لصراع سياسي محموم، طرفه الأول، الجانب الفلسطيني، والثاني ليس إسرائيل فقط، بل ومعها أميركا، التي لم تقترب من دائرة الوسيط المحايد، بعد أن كانت وسيطاً غير محايد منذ العام 1993، لكنها قد غادرت مربع الوسيط السياسي، الذي رعى المفاوضات خلال العقدين الماضيين.
ولمزيد من ذر الرماد في العيون، أعلنت واشنطن أن إعلانها يعزز فرص السلام في الشرق الأوسط، وهي تقصد بذلك، السلام الذي يريده نتنياهو، والذي يرفضه عباس، أي أن أحد جوانب أو أهداف الإعلان هو فرض الاستسلام على الجانب الفلسطيني، ليقبل بما تريده إسرائيل الآن من تجاوز لحل الدولتين، والقبول بحل أعلى سقف فيه هو دولة صغيرة في غزة، وإغلاق ملف اللاجئين، وضم القدس لإسرائيل، وبقاء قواتها العسكرية في غور الأردن، وضم المستوطنات، ولا دولة فلسطينية في الضفة، بل حكم ذاتي، أو قطاع جغرافي يتم ضمه لاحقاً مع دولة غزة، ضمن تبادل ثلاثي للأرض، وكل ذلك ضمن الصفقة الإقليمية، التي تجعل من صراع العرب مع إيران هو الصراع المركزي في المنطقة.
والأخطر هو أن تختار بنس الذي لم يقف فقط وراء ترامب لحظة إعلانه المشؤوم، بل هو الذي كان يقف بقوة وكان الرجل المؤيد للإعلان في البيت الأبيض، ليقوم بمهمة احتواء الموقف الفلسطيني، حتى يمر الإعلان مرور الكرام كما أسلفنا.
ما كان يمكن للرئيس عباس أن يقبل الذهاب لواشنطن، ليقوم بمهمة ورقة التوت لستر عورة ترامب الذي ظهر ضد كل العالم، لدرجة أن تيريزا ماي لم تستطع إلا أن تنتقد الإعلان، طبعاً إضافة إلى البابا وفرنسا وكل دول الدنيا، لسبب بسيط وهو أن العالم كله يعتبر القدس مدينة محتلة، وحتى إسرائيل التي وقعت إعلان المبادئ في حديقة البيت الأبيض في أيلول 1993وافقت على أن تكون القدس ضمن ملفات الحل النهائي، أي أن مستقبلها مرهون بمفاوضات الحل بين إسرائيل وفلسطين
مع أن الموقف الرسمي الفلسطيني، قد وضع أول حجر لصد انهيارات سياسية ممكنة ناجمة عن إعلان ترامب، إلا أن معركة سياسية ضروس قد بدأت، ذلك أنه على الجانب الفلسطيني أن يمنع أو أن يقف في طريق إقدام دول أخرى (أكثر من 160 دولة تعترف بإسرائيل، سفاراتها في تل أبيب) على أن تحذو حذو الولايات المتحدة، كذلك فإن انتقال السفارة الأميركية نفسه يحتاج 3_4 سنوات حتى يتم تنفيذه على أرض الواقع، أي أن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل كان أخطر من صمت البيت الأبيض والاكتفاء بعدم تعطيل قرار الكونغرس الخاص بنقل السفارة، في الموعد المحدد نصف السنوي.
لكن الموقف الرسمي الفلسطيني بحاجة إلى إسناد عربي/إسلامي، بممارسة كل أشكال الضغط من أجل أن يبقى الإعلان الأميركي منفرداً، وبحاجة إلى استمرار الغضب الشعبي، لإغلاق الطريق أمام صفقة القرن، وإقناع أميركا بأن إعلانها ستنجم عنه خسائر سياسية واقتصادية لها، وكأن الحرب قد عادت للمربع الأول الذي كانت عليه منذ مئة عام، لذا فإنه لا بد من رص الصفوف أولاً، ومن بث الحيوية في قادة وكوادر الفعل الميداني، وإطلاق المقاومة في كل الاتجاهات والمستويات، وعدم الاكتفاء بالشعار وإعلان الموقف.